مصر ليست هبة نهر النيل_كما قال هيرودوت_ فلو أن النيل يجرى بل يلهث لملايين السنين فى هذه البقعة من الكرة الأرضية دون أن يعيش على ضفافه بشر، فهل كانت ستوجد مصر؟ بالطبع لا، أليست هناك أنهار أخرى عاش على ضفافها بشر دون أن تصبح مصر؟ ألا يمر النيل نفسه على عدة بلدان أخرى ولم يظهر فيها حضارة تقارب لا تشابه حضارتنا؟ ألا توجد شعوبا أخرى أقامت حضارتها دون أن يجرى فى أرضها نهر مثل النيل؟ نعم.
إن كفاح المصريين وتفاعلهم البناء والمبدع عبر آلاف السنين مع معطيات النيل العظيم وواديه الفسيح، هو الذى أبدع تلك الحضارة العتيقة الراسخة، إذن فمصر هبة المصريين، كما اعتقد شفيق غربال.
ولكنى لو أننا عشنا على أرض أخرى، أو لو أن أرضنا لم يكن يجرى فيها نهر النيل، فهل كان بإمكاننا أن نصنع حضارة كتلك التى صنعناها؟ ربما!
وليس معنى هذا التقليل من أهمية النيل، فالحضارة المصرية لم تكن تزدهر وتترعرع دون ذلك التفاعل المزدوج بين المصريين وبيئتهم، لقد وفر النيل مقومات صنع الحضارة ولكن يظل الإنسان المصرى بعقله وعرقه هو صانع مصر، وعلى هذا فقد يصح أن نقول أن النيل هبة للمصريين، ولكن مصر هبة المصريين
كل المصريين، إذن فمصر هبة النيل والمصرين؟
لا، إن مصر هبة الرب، هذا هو القول الفصل، فلأمر ما شاء الإله الأكرم أن ينبت فى مصر القرطاس والقلم، وأن يجعلها المدرسة التى فيها علم الإنسان بهما ما لم يكن يعلم، إذ تأذن لأهلها فجعلهم أول من يكتبون، فقد أخذ الناس عنهم القلم وما يسطرون، ولأمر ما شاء رب العرش لأنبيائه ورسله أن يخرجوا من تلك البقعة الوسطى من شرق الأرض فيبشروا فيها بما نزل عليهم من كتب الدين ورسالات السماء
ولأمر لا يعلمه إلا هو شاء الإله العليم أن يقبل أنبياؤه على مصر ويردوها فيقيموا فيها ما شاء لهم أن يقيموا أو يكون لهم بها سبب يعظم أو يهون ولهذا ستظل مصر قبلة التوحيد إذا ضُرب بها الدين فقل على الدنيا السلام.
فتقول التوراة وحدث جوع فى الأرض فانحدر إبراهيم إلى مصر ليتغرب هناك لأن الجوع فى الأرض كان شديدا وبمثل هذا تحدث إنجيل متى عن رحلة المسيح:
إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا:قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر.....لكى يتم ما قيل من الرب بالنبى القائل من مصر دعوت ابنى فهو قضاء سابق أن يدعى يسوع من مصر فليكن إذن رحيله إليها قضاء لأمر من الله سابق سوف يكون.
ولهذا ستظل مصر مرآة السماء، الانعكاس السفلى لكل ما تقرره القوى السماوية، بثقافة الواحد،
فللأسرة سيدا واحدا، وللوطن حاكما واحدا، ولنا جميعا ربا واحدا.
مصر التى ضحى من أجلها الكثيرون، وسيضحى من أجلها الكثيرون، حتى تظل مرفوعة الجبين، هؤلاء لم ولن ينتظروا مقابل ولا تكريم، فكل منهم على حدى أسطورة فى العطاء والانتماء، يجب أن ينحنى لهم التاريخ مهابة واحتراما، ولهذا يجب أن تظل سيرهم باقية، ما بقيت على الأرض حياة، وهذه هى مهمة صاحب القلم، مهمتنا جميعا، ويا لها من مهمة ثقيلة!.
هذه مصر التى ذُكرت فى القرآن الكريم فى ثمانية وعشرين موضعا وقيل بل أكثر من ثلاثين وقع فيها ذكر مصر من القرآن صريحا أو كناية ونضيف أنها ذكرت فى الكتاب المقدس فى ستمائة وثمانين موضعا فلا يوجد قطر من أقطار الأرض أثنى عليه المولى عز وجل بمثل هذا الثناء ولا وصفه بمثل هذا الوصف ولا شهد له بالكرم غير مصر.
أجل فلقد كانت مصر فصلا جليلا من تاريخ كل دين على أرضها كلم الله موسى وبعثه هداية للعالمين وأقبل عليها يسوع فى المهد وكانت به أسبق المؤمنين ثم صارت من بعد حصن الإسلام ومعقله الحصين، ومن قبل ذلك أقبل عليها أبو الأنبياء_خليل الرحمن إبراهيم_فأقام بها بين أهلها يقول لهم ويسمع منهم ثم يخرج بجارية مصرية تكون أماً لبكر بنيه_فلقد كانت هاجر مصرية_وتلد هاجر المصرية إسماعيل الذى باركه ربه فكان صديقا نبيا ومن إسماعيل تخرج امة عظيمة هى أمة العرب المستعربين
ومنها كانت قريش زعيمة المستعربين أجمعين.
وقد شاء الله أن يشرف الأصل بالفرع فتشرف هاجر بمولد إسماعيل بل يشاء تخليدا لتلك الفتاة المصرية الطاهرة فيفرض على عباده السعى كما سعت بين الصفا والمروة حاجين أو معتمرين إذ تأذن ربك للآلاف من خلقه أن يطوفوا بين الجبلين إذ يتدافعون ما دارت الشمس كل عام مسبحين مهللين وأن يكون فرضه هذا من أركان دينه الذى أنزله وارتضاه كافة للعالمين إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
ومن بعد إبراهيم جاء يوسف إذ حمل إليها صبيا فعاش فيها حياته حتى توفاه الله فى أرضها وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث.
ونشأ فيها موسى حيث ربى وليدا ولبث فيها من عمره سنين فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا أنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون .
وأما يسوع فقد أتت به مريم تحمله حيث أقامت بين عين شمس وبابليون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين .
وكان لحبيبنا وقدوتنا محمدا صلى الله عليه وسلم_ كما كان لجدة إبراهيم_زوجة مصرية هى مارية ابنة شمعون التى أنجبت له ولده إبراهيم كما كان له صلى الله عليه وسلم فيها أحاديثه الشريفة ماوصى بها الناس بأهلها وذكر أننا نكون على الأعداء نعم العون صدق الصادق الأمين الذى لا ينطق عن الهوى.
ألا يكف كل هذا ليظل اسمها باللغات الأجنبية مثل العربية_مصر_ بدلا من EGYPT ؟! هذا الاسم الذى أعاده إليها ابنها البار أنور السادات بعد أن ظلت لسنوات تبحث عنه كأم ضاع منا وليدها، فلتكن تلك المقالة هى الشرارة الأولى لحملة تطالب بذلك، ولتكن هذه هديتنا لمصر بمناسبة فوزها بالكأس السابعة لأمم أفريقيا فى لكرة القدم، والتى أقيمت مؤخرا بانجولا، بدلا من طوفان الأغانى وسيول التهانى.
فإن لم أكن مصريا، لوددت بالفعل أن أكون مصريا، هذا ليس شعار، مستلهما من مقولة الزعيم مصطفى كامل، بل حقيقة نحسها جميعا فى وقت الأزمات، فمهما مضت بنا الأيام، نظل نبحث عن أصولنا متمنين أن تكون كما نريد، نظل نعتز بانتمائنا لمصر كوطن وسكن ومأوى، كرمز وأمل وحياة، كتاريخ وحاضر ومستقبل، ونظل نستشعر الفرق بيننا وبين الأغراب مهما حاولوا التشبه بنا، ومهما مرت الأعوام تلو الأعوام وهم يندسون بيننا ظانين أنهم قد ذابوا فى نسيجنا، نبقى نحن نميزهم، ونحفظ فى ذاكرتنا تاريخهم، فكم من مرة دخلها هؤلاء الأغراب، وظنوا أنهم قلبوا مدنها أنقاضا فوق سكانها، فإذا شعب مصر ينفض عنه ما ظنه الدخلاء فناء، ويبعثون من تحت الأرض أعزة أقوياء، فمصر خالدة على الزمن، مهما طال أو قصر.
