فجأة وبلا مقدمات اختفت تلك الفتاة الصغيرة الجميلة من الشارع، فلم تعد تلعب مع قريناتها ألعابها المفضلة وأهمها الأستغماية ( وهى لعبة مصرية مشهورة بين الأطفال وترجمتها بالإنجليزية هى hide and seek )، لقد كانت تملأ المكان ضجيجاً مع صديقاتها أثناء اللعب ولكن للحق كانت ممشوقة القوام شديدة سواد الشعر واسعة العينين رائعة الجمال، ماتخطت بعد عامها الرابع عشر حين حرموها من طفولتها وبتروا براءتها وزوجوها خلسة من عجوز خليجى متصاب لم يكمل بعد الثمانين ربيعاً، حيث كان يتجول مع أحد أحفاده المتزوجين من نفس القرية وكان يسير بخطواته الواثقة كخطو المها فى صفاء الربيع، وقعت عيناه التى تشبه عيون البوم على تلك الطفلة المسكينة الرائعة الجمال الممشوقة القوام فاضطرب قلبه المرهف حباً، واشار إليها بالبنان وشخشخ جيبه الملآن، ويا لأثر بريق الذهب ورنين الفلوس حين يشخشخ بها خبير بالنفوس ومريض بالزواج كل شهر من عروس .
أسرع حفيده ذو النسب القديم فى القرية وأعلن أمام أهل زوجته عن رغبة جده الهمام من الزواج من تلك الفتاة اليانعة كالوردة الساطعة وأكد استعداد جده لدفع أية مبالغ للشبكة والمهر والهدايا والتجهيزات وأكد أنه سيشترى لها شقة فى المدينة المجاورة، وبطبيعة الحال استقبل أهل العروس- الطفلة - هذا الخبر استقبالاً سعيداً ورحبوا بالعريس ترحيباً شديداً، وظنوا أن الله تعالى قد رضى عنهم بهذه الزيجة وفتح عليهم من خزائن النفط الخليجية بئراً من آباره ونقلهم بهذه الخطوة من فقر مدقع إلى غنى ومال وجاه لم يحلموا به من قبل، ولم يكن صعباً عليهم أن يستخرجوا لها شهادة تسنين من مكتب الصحة مثبوت فيها أن الطفلة قد بلغت سن الزواج القانونى (16سنة ) مقابل عدة مئات من الجنيهات ووليمة طعام فاخر لطبيب الصحة وكاتبها، وأقيمت الأفرح والليالى الملاح وزفت الطفلة على عريسها الذى لم يتخط بعد الثمانين ربيعاً، وبالطبع فقد خدعت الطفلة بالذهب الكثير والفساتين والهدايا وهى تظن أنها ذاهبة فى رحلة ترفيهية لفترة وجيزة تعود بعدها للعب واللهو فى الشارع مع قريناتها مرة أخرى، ولكن ذلك لن يحدث أبداً فقد سافرت مع زوجها الذى لم يتخط الثمانين ربيعاً بعد إلى دولته التى يعيش فيها .
كانت طفلة فحرموها من طفولتها، وكانت سعيدة فبتروا سعادتها، وكانت تتعلم فى الصف الثانى الإعدادى فحرموها من التعليم، كانت حرة طليقة كالعصفورة المغردة فأحرقوا حريتها وكتموا صوتها وحرموها من نعيم الحياة، كانت طفلة صغيرة مسكينة فأصبحت فى مقام الأم لرجال بعضهم تخطى سن الستين، كانوا جميعاً يترقبون كل خطواتها وكل كلماتها ويحاسبونها على كل صغيرة وكبيرة، وحبسوها فى قمقم كأنه زنزانة فيها كل أنواع المتع من طعام وشراب وتلفزيون وفيديو وخلافه.. ولكنها حرمت من نعيم الحرية وجمال الحياة ولذة الطفولة، كانت – كالآلاف من قريناتها – ضحية الفقر والجهل والتخلف وموت الضمير .
وبطبيعة الحال لم يمض أكثر من عدة أشهر حتى مات زوجها وتركها أرملة فى عمر الزهور حيث لم تبلغ عامها الخامس عشر، وعادت إلى قريتها كأن شيئاً لم يكن، فالعجوز المتصابى لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى كان يعيش معها كصديق لطيف وأخ ودود ولقد قامت على خدمته بكل إخلاص حتى توفاه الله تعالى، عادت الطفلة ولكنها لم تصبح طفلة بل صارت كمن تخطت سن الستين من كثرة ما حملت من هموم وما صبرت على أعباء، وصارت أرملة يتوافد على زواجها كل من هب ودب وكل طامع ذهبها وشقتها ورصيدها البنكى، وماتت فيها البسمة وخنقت الفرحة وحلت محلهما لوعة الضياع ومرارة الإحساس بالظلم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة