الفرحة الطاغية التى غمرت المجتمع بجميع فئاته وأطيافه وطبقاته عبرت عن شوق جارف نحو تحقيق أى إنجاز قومى. فكأس الأمم الأفريقية لكرة القدم التى أقيمت منذ أيام فى أنجولا ورغم أنها منافسة عادية بين عدة فرق. قد اجتمعت لها عوامل الإثارة والاهتمام الجماهيرى حتى بدت وكأنها مناسبة قومية فى سياقها وظروفها..
الحالة الفريدة التى بَدَوْناَ عليها أثناء مباراتى الجزائر قبل النهائى وغانا فى النهائى أمس وبعدها تثير عدة ملاحظات وأسئلة. أراها ضرورية. يجب ألا نغفلها فى هذا السياق:
فمن الواضح أن هناك تعطشا جارفاً لمشروع قومى يمكنه إذا وجد أن يؤلف بين القلوب. ويزيل الاحتقانات. ويجمع الأشتات على قلب رجل واحد. ويحشد الجهود ويدفع الطاقات نحو غاية واحدة. ومصير واحد. وهو ما ظهر جلياً فى ردود أفعال الجماهير على اختلافها. فى لحظة بدت مناسبة لاستقبال وميلاد مشروع قومى مهما يكن حجمه وهدفه. تحمله تلك الجماهير على أكتافها ترعاه وتسهر على تنفيذه.. وتبذل فى سبيله الجهد والعرق والعمر.!!
ورغم أننى مع الالتفاف والتوافق حول الرمز - مهما يكن - مادام يحقق الإجماع الشعبى، فإننى لست مع الذين يَروْجُون أن تكون الرياضة عموماً. وكرة القدم على وجه الخصوص مشروعاً أو بديلاً للمشروع القومى» إذ هى لا تصلح لذلك. ولا تصمد فى الواقع.. فالفوز بمباراة يتبعه شعور زائف بالزهو والنصر.. كما أن الهزيمة هى الأخرى تخلق صدمة فى نفوس المشجعين سرعان ما يزول أثرها أيضاً.. فتذهب السَّكْرة وتأتى الفكرة.. ويجد هؤلاء أنفسهم من جديد أمام الواقع بكل تحدياته ومشكلاته..!!
وليس منطقياً فى مجتمع يئن تحت وطأة الأمية. والزيادة السكانية الرهيبة. وتخلف التعليم والصحة. وغياب الانضباط عن الشارع. وتراجع ثقافة العمل والإنتاجية.. ووجود المشاحنات الطائفية التى تطل بوجهها القبيح بين الحين والآخر.. ليس منطقيا ولا مستساغاً والحال هكذا أن ننسى تحدياتنا وأزماتنا. وتصبح غاية آمالنا الفوز بمباراة هنا أو هناك حتى ولو كانت فى كأس العالم..!!
فثمة ميادين تصلح وعاءً وبيئة حاضنة لمشروع قومى حقيقى يلمس واقع الناس. ويرفع العبء عن كاهلهم. ويوفر لهم مزيداً من الرخاء والرفاهة.. ليكن هذا المشروع - مثلاً - برنامجاً وطنياً للتعليم العصرى.. أو ليكن "تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء" أو استصلاح الصحراء وأعمارها بالبشر.. أو ليكن هو "المشروع النووى".. ليكن واحداً من تلك المشروعات أو بعضها أو كلها.. والتى يمكن أن تنقلنا - إن تحققت - إلى عصر آخر نحن جديرون باللحاق به. بعد أن تأكد لنا أن لدى جماهيرنا مخزوناً هائلاً من الوطنية والحيوية والولاء. والاستعداد القوى للانصهار فى بوتقة هذا الوطن.. ولديهم أيضاً عزيمة صادقة جبارة على إحراز النصر والتفوق حتى لو كان فى مباراة للكرة..!! ولست أنكر أن الرياضة ورغم كونها منظومة تعزز قيماً نبيلة فى النفوس.. فإن الناس أيضاً فى حاجة إلى هدف قومى يخلق إجماعاً وطنياً يدوم أثره.. ويحظى بقبول الناس كما حظيت مباراة مصر والجزائر وأيضا مباراة غانا فى النهائى التى دفعت إلى الذهن أسئلة عديدة من بينها:
- ألا يستحق شعب بهذه الدرجة من الوعى والعظمة والتحضر اهتماماً أكبر وهدفاً أعمق. يلتف الجميع من حوله.. وكيف يمكننا أن نستثمر هذا الزخم. وتلك المشاعر الفياضة من الحب والانتماء والفرحة.. والحالة المزاجية الجماعية المتفائلة.. لنبنى فوقها هدفاً قومياً أكثر ثراء ومقبولية وإنتاجية من جميع أفراد المجتمع.. وما أكثر تلك الأهداف..؟!
- فهل يمكننا أن نبقى جذوة الحماس الوطنى التى خلفتها فرحة الفوز بكأس الأمم الأفريقية أنجولا 2010م مشتعلة فى النفوس والقلوب والعقول.. تحلق فى سماء الوطنية.. وترفرف فى ذاكرتنا القومية؟!
- ولماذا لا نصر على الأمل.. ونطرد كآبة اليأس والملل والعزوف عن المشاركة فى شئون الوطن وشجونه وهمومه.. ولماذا لا نصر على ألا تفلت منا تلك الفرصة فى هذه المرة.. وألا تتسرب - كغيرها من لحظات العمر الجميل - من بين أناملنا..؟!
- ولماذا لا نصر على المشاركة السياسية الفعالة والدائمة بنفس حماسنا وإصرارنا على تشجيع المنتخب الوطنى ومؤازرته حتى النهاية..؟! لقد كانت عدالة الله عز وجل فوق الجميع. إذ شاءت إرادته ألا يبيت شعب مصر حزينا كسيف البال على ضياع الحلم فى التأهل للمونديال. فلاحظتنا عنايته. وأدركنا توفيقه فى اللحظات الحاسمة بهدف جدو فى اللحظات الأخيرة » استجابة لدعاء الملايين من شعب مصر. الذين ابتهلوا إلى الله بخالص الرجاء.. فحقق الله آمالهم. ومنحهم نصراً عزيزا.ً
لقد وجدت الجماهير هدفاً يوحدها بعدما فرقتها السياسة. وتجاذبتها المصالح على اختلافها. وتنازعتها الأهواء والاختلافات والأغراض.. وحين عثرت على هذا "الهدف" تعلقت به وتشبثت بتلابيبه» لتعيد اكتشاف نفسها من جديد.. بعدما مضى وقت طويل. ونحن نتحدث عن غياب مثل هذا الهدف تناسى الجميع فى غمرة أفراحهم.. البطالة ومنغصاتها.. وأنفلونزا الخنازير وتهديداتها.. والقمامة ومشكلاتها.. أهالينا المشردين بسبب السيول فى سيناء والعريش وغيرها ... بل تجاوزنا خلافاتنا. واختلافاتنا الطائفية والمذهبية.. واتجهت أنظارنا جميعا - مسلمين ومسيحيين. معارضين ومؤيدين. فقراء وأغنياء. شعباً وحكومة - صوب فريقنا.. واجتمعت كلمتنا جميعاً على صيحة واحدة تردد فى نفس واحد : " مصر.. مصر..".
لقد توهم بعضنا بل كثير منا أن ما يعانيه شبابنا من مشكلات. وما يقاسيه مواطنونا من أزمات قد باعد بينهم وبين الولاء لمصر. وجعلهم فى خصومة مع الوطن. وهى أوهام سرعان ما بددها أول ضوء يشرق من نفوس المصريين على مفترق حقيقى دعا إلى عبوره نفير الوطنية ونداء الواجب خَلْقُ الأهداف ألكبرى ليس مسئولية الحكومة وحدها. بل هو ضرورة مجتمعية تفرضها التحديات الراهنة.. ويتحمل مسئوليتها جميع قوى المجتمع.. تلك اللحظات الفارقة قلما يجود علينا الزمان بمثلها.. وهى إن صح العزم وخلصت النية سوف تنقلنا من وضع إلى وضع أفضل.. وتنعش الذاكرة الوطنية بنسيم الانتصارات التى تستحقها مصرنا الغالية وشعبها العظيم بجدارة.
- فهل نتشبث جميعاً بأجواء الفرحة. وننسج على منوالها أملاً يتحلق الجميع من حوله.. ويقفون من ورائه» حتى نجد مصر التى نتمناها ونحلم بها..؟!
