سؤال ثار فى ذهنى حين فكرت فى مفهوم المواطنة .. وقبل الحديث عن الاستقالة يمكن الحديث عن المواطنة وبعدها نفكر .. أو قبلها نفكر .. أو لا نفكر على الإطلاق؛ فالذى يستقيل غالباً لا يفكر.
يرتبط مفهوم المواطنة Citizenship بمفهوم (الدولة/المدينة) التى تكونت فى اليونان بعدة قرون قبل الميلاد. وتأتى المواطنة (للأحرار) مقابل الغرباء (العبيد)، واليوم يعود نفس المفهوم لتشعر أنك غريباً ولكنك فى الوقت نفسه لست عبداً فتقرر أن تخرج من المنطق الأرسطى بمقدماته ونتائجه؛ فتستقيل.
واستمر الأمر على صورته هذه مع الرومان بصورة أو بأخرى؛ حتى جاء فلاسفة العقد الاجتماعى هوبز، ولوك، وروسو وربما مونتسكيو ليطرحوا مفهوماً آخر يقوم على العقد الاجتماعى ما بين أفراد المجتمع والدولة أو الحكم، وعلى آلية ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالاستناد إلى القانون.
وعليه فقد ساد مفهوم المواطنة، حيث تحول المواطن إلى ذات حقوقية وكينونة مستقلة، بعد أن كانت القبيلة أو العشيرة أو الوحدة العضوية هى ذلك الإطار، الذى ترتبط علاقاته بالآخرين بناءً على موازين القوى ومنطق القوة أصلاً، ولأن العقد قد أخل ببنوده أحد أطرافه الذى يفترض أنه الحاكم الذى تنازل له الشعب عن بعض حرياته حتى لا نصل إلى حرب الكل ضد الكل، عندما أصر أن يكون البعض كلاً، فيتنازل الشعب عن كل حرياته بلا مقابل، والأغرب أن تظل حرب الكل ضد الكل فى مصر، ومع الإخلال ببنود العقد يجب الفسخ ولو من طرف واحد؛ فتستقيل.
ومع انتصار الثورة الصناعية وتحرير الأقنان والعمالة الزراعية بغرض استعبادهم فى المصانع, أخذت المواطنة شكلاً آخر، هو حقوق العمال والحقوق المدنية المنصوص عليها فى الدستور، ولأن الحاكم قد بنى بالدستور فغيَّر المادة 76 وغيرها من المواد؛ فإن هذا الشكل من المواطنة يفقد مشروعيته وفقاً للدستور المصنوع من الحاكم الذى هو أبو القوانين المخروقة من الأصل؛ فتستقيل.
ومع تكوين الدولة القومية الحديثة، التى تعتبر لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها، أصبحت المواطنة بمعنى حفظ حقوق المواطن من خطر استبداد الدولة، ولأنه لم يعد هناك حفظ ولا حقوق للمواطن داخل حدود الدولة، حتى لذلك الذى غادرها ليعمل أو ليهاجر فتم تصدير خرق أبسط حقوقه لمجرد أنه يحمل جنسيتها أينما حلّ أو ارتحل؛ فيستقيل.
أما حين تختلط المواطنة بحقوق الإنسان والعياذ بالله من حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة فى اتخاذ القرار السياسى، وحقوق جماعية ترتبط بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإنك تزيد الطين بلة، أو تزيد المفهوم غموضاً، وإذا كان مع الوضوح قد اغتيلت المواطنة فما بالك مع الغموض والظلامية، كيف سيكون الخرق، فتستقيل بدلاً من أى خيار آخر.
وقد جرى تعريف المواطنة كإحدى المحركات والاستراتيجيات التى تقوم عليها البنى التحتية فى دولة المؤسسات ومجتمع القانون، لتصبح أو ليُفترض أن تصبح هى الآلية للحد من الصراعات الإثنية، والعرقية، والاجتماعية، والجنسية، على قاعدة مبدأى عدم التميز والمساواة، ولكن حين لا تصبح، أو حين لن يُفترض لها أن تشهد صباحاً؛ لا تكون، أى لا تكون المواطنة مع وجود الصراعات السابقة بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى مظهراً من مظاهر حرب الكل ضد الكل، التى سبقت الإشارة إليها، وهنا .. تستقيل.
وإذا كانت الدساتير الدولية قد أجمعت على أن للأفراد الحق فى أن لا تتعرض شخصيتهم أو وطنيتهم للشك أبدا نتيجة معتقدهم أو أصلهم أو دينهم أو لغتهم أو رأيهم. ولا يجوز إجبار المواطن على التخلى عن جنسيته أو إسقاطها عنه دون رغبته، فبمفهوم المخالفة يمكن للمواطن أو لمن حاول عبر آلاف السنين أن يُصبح كذلك أن يستقيل، أما موضوع دوافع وبواعث الاستقالة وهل جاءت بإرادة حرة أم لا، أو هل تمت بإجبار أم لا، فهذا خارج السياق، لأنه كيف للعبيد أن يختاروا بحرية أن يستقيلوا وهم لم يصلوا إلى درجة المواطنة حتى يتخلوا عنها، لتصبح بعدها وربما قبلها درجة المواطنة شاغرة فى وظائف الوطن.
وإذا كان البحث قد طال بك حتى وصلت إلى قرار الاستقالة فى حد ذاته، فلن يطول بك الأمر لتبرره، أو أن تدافع عن نفسك ضد الفئة الضالة أو الزمرة الغاشمة من المزايدين عليك بمجرد تسرب خبر استقالتك، فمن لا يذهب إلى صناديق الانتخاب التى تُعبأ آلياً فى مقار الحزب الحاكم مستقيل، ومن يركب البحر انتحاراً للوصول إلى شواطئ إيطاليا للعمل فى الزبالة مستقيل، ومن يبيع وطنيته ويتظاهر ضد مصر فى الخارج باسم الأقباط مستقيل، ومن يبيع روحه بريالات ملوثة بالنفط مستقيل، ومن يُقلِّص مهامه فى الحياة فى المأكل والمشرب والمنكح فهو مستقيل، ومن يرقص على نشاز الحاكم مستقيل، ومن يطبل له مستقيل، ومن يطرب للنشاز مستقيل .. ثمانون مليون مستقيل ولكن لا يعلمون، أما حين يقرأون طلب استقالتى سيصبحون ثمانين مليون مزايد يدعى كل واحد فيهم أن مصر هى أمه.
وإذا كنت قد بدأت بالسؤال عن هل فكر المصريون فى الاستقالة من مصر؟ فإننى سأختتم إستقالتى بسؤال عن نفسى فقط، وهو لمن أتقدم بطلب الاستقالة؟
إسلام محمود يكتب: هل فكر المصريون فى الاستقالة من مصر؟
الجمعة، 26 فبراير 2010 06:55 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة