بعد أحداث 11/9 قام مخرج أمريكى شهير بسؤال 11 من زملاء المهنة العالميين بالمساهمة فى فيلم عن الحدث الكارثة، فلبوا جميعًا رغبته، أذكر منهم هنا المخرج المثقف يوسف شاهين ومخرج شيلى ، لا أذكر اسمه الآن.
فقد تناول مخرجنا يوسف شاهين الحدث بدءًا من لبنان- الحرب الأهلية، ليخرج جندى أمريكى من مياه بحر بيروت ليسأل شابًا يرتدى الكوفية الفلسطينية ويجلس على صخور الشاطئ، "ماذا فعلت ليقتلنى العرب؟"، ليصحبه الشاب إلى بيته فى مخيمات اللاجئين فى غزة، ليدعه يرى بأم عينيه كيف يهين الإسرائيليون أهله، ويسرقون أرضه، ثم يصحبه بعدها معه ليتابع الاثنين معًا، كيف يعد هو نفسه للموت، وهو يودع عائلته ليرتدى الحزام الناسف وليفجر نفسه، ثم يعود ليسأل القتيل الأمريكى، "هل فهمت، لماذا؟"، لتنتهى مساهمة يوسف شاهين وسط وجوم المشاهدين، ولا أقول دهشتهم.
أما المخرج الشيلى فكانت مساهمته لا تقل عما قدمه مخرجنا شاهين، فقد صحب الكاميرا معه إلى ماضى شيلى، وبالتحديد ليوم 13/9/1973، وهو اليوم الذى قام فيه الجنرال (بينوتشيه) - مدفوعًا من جهاز المخابرات الأمريكى CIA - بالانقلاب على الرئيس الشرعى والمنتخب، سلفادور أليندى، حيث قامت طائرات سلاح الطيران الشيلى بقصف القصر الجمهورى والرئيس صامد داخله، ولتنزل القوات الخاصة معها إلى شوارع المدن لتسوق برجال ونساء الثقافة الرفيعة فى هذا البلد الذى لم يعرف مثل هذا العنف من قبل إلى استاد العاصمة، سنتياجو، ليتم إعدامهم واحدًا وراء واحدة. فى حفل إعدامات لم يشهده التاريخ المعاصر من قبل، اللهم إلا فى النظام الفاشى الهتلرى- وليتم التخلص من جثامينهم فى مقابر جماعية لا يعرف لها إنسى ولا جنى طريقًا إلى الآن.
هاتان المساهمتان كانتا بالنسبة لى حقائق معروفة، وإن كانت صلتهما بالحادى عشر من سبتمبر غير مباشرة فهما يعطيان تلميحات لما فى نفوس العالم، عالمنا، لحقيقة مؤداها أن ذاكرة المظلوم غنية بالمظالم، والتى لها أن تملأ الكتب، وتشكل فى عالمنا البسيط أيضًا "صدمة ثقافية" من مكيالهم لنا، فهذا بقليل من الماء يُطَهَّر، وهذا ببناء وهدم كما قيل عن عدد طبقات السماء. ولكنى لم انتظر لحدث جثام مثل 11/9 لأصدم الأوروبى طالبى والزميل ثقافيًا بما لا يعرفه عما يخرج عن عالمه، بل صحبتهم إلى أصدقاء كدروع ثقافية فى حاجة إلى دروس تقوية فى التوعية، حتى لا يقولون: "لم نكن لنعرف"، أو "لم يقل لنا أحد"، وهذا ما كان قد حدث بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، والتى قام بها الجميع دون استثناء، لينكروا العلم بها بعدها، لندفع نحن، نعم نحن، ثمن الفعل القمىء والنكران الأكثر عفنًا حتى اليوم وغدًا.
وهذا مادعانى إلى أن أقوم مع فريق طلابى وزملائى الأوربيين العشرين لزيارة أصدقاء فى بيتهم، فالأهرامات وأبو الهول لايحكون تحت أطنان القمامة التى تشاهدها لو بعدت أمتارًا قليلة فقط عن طريق السياح المعبد، والنيل لا يسمع ولا يبكى بفعل عشوائيات وسموم كيمياوية تهين وجنتيه المبجلتين، والمتحف المخزن يأن تحت جشع التنظيمية السوقية وفتوة يحرسون أبوابه كأى كمين للشرطة فى منتصف أى ليل فى كل مصر لا القاهرة فقط، والبازارات لا تروى للسياب ولا لأحمد مطر ولا للأبنودي، ولا حتى للضمير الحى، بل لرب العالمية الجديد– الدولار، الأكثر خضارًا من كل وادى النيل.
وقد فتح لنا الشاعر العامى الجميل، شاهين أبو الفتوح، بيته المطل على لوحة حفظتها لنا آلاف السنين، خلابة جذابة ساحرة فاتنة طالما تراها من بعد ومن عَلِي، زادها نورًا شباب مثقف من كاتب لشاعر لأديب وموسيقى ومغن وصحفى وحزبيين وحتى دبلوماسيين، لبوا الدعوة فكان المجتمع المصرى فيها ممثلاً بأزهى صوره فى ليلة دافئة بقلوب الجميع، ليتعرف الضيوف على التفسير المواكب للحدث الأسطورة، لتكمل رواية الأهرامات وأبى الهول ولتمتنع البازارات السوقية عن الدخول، لنوجه السؤال لضيوفنا، هل فهمتهم؟ وليعاد السؤال بصورة أكثر بساطة، ألا نستحق، سادتى، تضمانكم رغم المهزلة؟
وإذا كان هذا اللقاء البيتى الجميل قد ألقى بضوء ما على البيوتات العربية الكريمة، أيام كانت بيوتنا مفتوحة على مصارعيها فى أمن وآمان، وتقدم ما نتصوره لضيوفنا من مكانة تليق بهم معنا وبنا، ند لند ورأس برأس، إلا أن تمكنى بمعونة أصدقاء كرام بتنظيم زيارة لدار اليوم السابع، "كمؤسسة" صحفية ناجحة، أكمل الصورة والتى كثيرًا ما كانت تحتاج وبالضرورة إلى توضيح مجهد، فالشائع فى الغرب أن العرب يتألقون فقط كأفراد فرادى متفرقين، لا كجماعات ولا كمؤسسات، والعرب يتألقون خارج أوطانهم وفى الشتات الذى يفرض عليهم التألق بالقوة، فكان مثال "المؤسسة" من أجمل ما قُدِم لهم، حيث يستثمر الوطنى الواعى أمواله فى نشر الكلمة لضرورات التوعية، وحيث يقوم شباب مخلص بمسئولية حمل كلمة بديلة، ليس فقط يوميًا بل وكل ساعة، وحيث يفرض على الدولة أن لا تتدخل بمقص الرقيب الباتر، لتفرض الكلمة الاحترام لنفسها فى رأى ورأى آخر، لا يعرف فيها إلا الفكر الإنسانى طريقه إلى المتلقى، فلا للمذهبية ولا للطائفية ولا لون البشرة والدين والجنس دورًا فى الوصول إلى قلب القارئ وبيته.
والأهم من هذا وذاك أن البيت مفتوح على مصراعيه كما كانت بيوتنا هكذا يومًا ما، وفيه تعمل المرأة المثقفة، وهى الغالبية فى اليوم السابع، بجوار الرجل المثقف، لا خلفه ولا تحت قدميه، كما تنشر لنا بعض دعايات الغرب غير الأمينة، لتدخل رياح التغيير مع خط قلم كل كاتب وكاتبة، مخلص ومخلصة، بيت كل مخلص ومخلصة.
وبعد أن شاهد الضيوف البيت والمؤسسة، كنموذج معلوماتى بديل لما لمعلوماتهم القديمة، كان لهم أن يروا الشارع النموذجى فى الإسكندرية مساء يوم أحد من الأسبوع، حيث يستريح وسط المدينة من عناء ستة أيام طوال، وحيث يقابل الغريب "بمرحب"، و"بمساء الخير" فى كل مكان، مما دعا طالبة بعدها للسؤال، "هل يسخرون منا بهذه الابتسامة والسلام؟"، فأجيبها بالنفى، مذكرًا بماض عتيد كانت فيه المدينة تضم أجناس الأرض جميعًا فى سلام وأمان، أيام كانت الإسكندرية ليست فقط لؤلؤة بحرها الأبيض، بل وعروسه.
وبعد.. فعَلِّى قد أوصلت الرسالة بأن قلبنا، البيت والمؤسسة والشارع، مازال ينبض وبقوة ولكنه، كما نعرف أيضًا، فى حاجة إلى هواء نظيف وهو لا يكون إلا مع فتح كل النوافذ ليقوم التيار بفعله، وهو ما أرى مصرنا والعرب جميعًا قادمين وقادرين عليه. إذن، فلتفتح النوافذ، فالحرية تهندم نفسها للقائنا!
* محاضر فى العلوم السياسية فى جامعة انسبروك