لا أعلم تماما لماذا وصف اليمن بالسعيد ؟ ومن الذى وصفه بهذا الوصف ؟ وهل هو سعيد سعادة طبيعية أم ناتجة عن القات ؟
وهل سعادته دائمة بمعنى أنه كان سعيد علشان حد زاره مثلا ؟ أو علشان لقوا بيه بترول؟
فأصبح سعيدا وبعد كده هيرجع تانى ولا أيه ؟مش عارف بس اللى عارفه ومتاكد منه إن فيه حاجة غلط .
أيوه.. فيه حاجات غلط .. أيه هيه ؟ ده اللى هاحاول أشرحه.
لم أزر اليمن ولا مرة واحدة لأن الطاقم ليس مسموحا له بالمبيت هناك ورحلاتنا نقوم بها ذهاب وعودة وكل ما عرفته عن اليمن
قبل عملى بالطيران كان عن طريق عمى -رحمه الله- والذى حارب باليمن ورجع ومعه بالإضافة للكم الهائل من المرارة
والذكريات السيئة كما أخر من الحكايات الغريبة والتى كنا ساعتها ونحن أطفال نحسبها على سبيل " النخع " المراد منه جذب
انتباه أطفال لا يردون على حكاوى عمهم إلا بضحكات مكتومة أو بنظرات مختلسة إلى أمهم والتى ترد غالبا بنظرة حازمة معناها
يجب التزام الأدب وإن كانت تفلت منها أحيانا
ضحكة أو تعليق من قبيل..أيه ده هوه فى ناس كده ؟ أو لأ.. لأ مش ممكن .. الحمد لله من شاف بلاوى الناس هانت عليه بلوته..
ولم أعرف وقتها إن عمى قد حجب عنا الجزء الأكبر من حكاياته خشية اتهامه بالجنون أو كما كان أبى دائما يعلق هوه أنت كده دايما تبالغ؟
وبرغم حلفانه المتكرر وأيماناته الغليظة ألا أنه كان دائما هناك حاجز عقلى يمنعنا من أن نصدق ما يقول أو على الأقل يجعلنا نتخيله..
ومرت أعوام وسنوات وعملت بهذه الوظيفة والتى أعطت لى الفرصة بالتعامل مع هذا الشعب عن قرب ومعرفة خصاله وعاداته.. وكانت أول رحلة لليمن.
الركاب أشكالهم لا تختلف عن الفلاحين الغلابة والموجودين عندنا فى ريف الدلتا.. لا يختلفون شيئا سوى تلك النحافة الظاهرة وهذا الصدغ المنتفخ ..
الذى حسبته فى البداية ورما بالفم أو مرضا بالأسنان ولكنى وجدت غالبية الطائرة على هذه الحال فقلت مش ممكن دولة كاملة عندها ورم فى بقها... أيه ده ؟
ده أكيد وباء أو فيروس.. لم أعر هذه المسالة انتباها وظننت أن هناك مصادفة أو ربما هى تخاريف المبتدئين
وأقلعت الطائرة وبدأنا العمل.. وبدأ توزيع الطعام على الركاب وهنا بدأت الحكاية تتضح تدريجيا.. أول راكب بدأت معه الحوار عيناه حمراء
بشكل غير طبيعى فقلت يمكن علشان الرحلة بالليل والراجل عايز ينام.. يعنى كده بقه وارم وعينه حمرا .. أيه الهم ده ؟ حسيت إنى بتكلم مع واحد طالع من خناقة ومتشلفط.. ياعم وأنا مالى الواحد يعمل شغله وخلاص ودع الخلق للخالق.. وبدأ الحوار .....حضرتك تاكل لحمة ولا فراخ ؟
وأخذ ينظر إلى بعينه الحمرا الميته ولا يجيب ........حضرتك تاكل لحمة ولا فراخ ......عيناه تنظر إلى فى ذهول ولا يجيب ......حسبته لا يسمعنى
فرفعت صوتى تاكل لحمة ولا فراخ.....ينظر لى وكأنه ينظر للفراغ ولا إجابة يا نهار أسود أحسن يكون ميت وصالب طوله كده وكده وأول ما هلمسه هيقع
هززته برفق قائلا يا عم الحج لحمة ولا فراخ فأصدر صوتا وكأنه قادم من الماضى أو كأنه صادر عن قوقعة فى أسفل بحار الظلمات .....فرااااااااااااااااااااخ
وعلى الفور أدركت أنه مسافر من زمان ولسه ما وصلش وأنه تطبيق عملى لنظرية المؤامرة
ووضعت له على الفور لحمة فأخذ يأكل فيها وهو ينظر للفراغ ....ولم أرد أن أقطع عليه خلوته الكونية بسؤاله عما يشرب والا كانت الرحلة انتهت وأنا مازلت عند الراكب الأول
ولاحظت أن زميلى لا يقوم بسؤال الركاب فيضع لهم ما يفضله هو حسب شكل الراكب وهو ما أوضحه لى فيما بعد بأن هناك ركاب شكلها لحمة وهناك ركاب فراخ.
وهذا ما اكتشفته بنفسى مع الراكب التانى، حيث كان الحوار نسخة مكررة من حوار الراكب الأول إلا أنه تميز بأن الراكب الثانى كان مبتسما ابتسامة عظيمة لم أعرف لها سببا إلا عند وصولنا مطار صنعاء ووصول أهله ليأخذوه على كرسٍ متحرك وعندما سألوه عن حاله قال لهم وابتسامته العظيمة تملا وجهه.. العمليه باظت.. خربانه ولم أجد أى رد فعل سوى قولهم يلا حمد لله على السلامة ترجع تانى الأسبوع القادم إن شاء الله
واليمنيون يثقون فى الطبيب المصرى ثقة عمياء مثلما نثق نحن تماما فى الطب الإنجليزى
وقال لى أحدهم ....أنتم يا مصريين أهل الطب والعلاج وأطباؤكم شهد لهم العالم بالنبوغ والتفوق مثل الدكتور زويل والدكتور أسامة الباز، ولم يكن يجدى مع هذا الرجل اية مناقشة لأنه كان متحيزا لمصر أكتر من أبويا.. فأخذت أؤمن على كلامه وأقول والدكتور القرضاوى والدكتورة رتيبه الحفنى وهو يردد الله.. الله.. عظيمة يا مصر واكتشفت بعد توالى الرحلات إن انتفاخ الفم ما هو إلا تخزين للقات ولا أعلم لماذا سموا هذه العملية بالتخزين هل لأنه هيغلى أو هيشح فى السوق ؟
لا أعلم وربما عدم فهمى لهذه العملية راجع لأنى من بلاد نخزن فيها التوم أو البصل وليس القات
لم أخزن القات من قبل ولا اعلم طعمه وإن كانوا يقولون عنه أنه مر المذاق ولا أدرى ما هى الحاجة الملحة التى تجعل الإنسان يذوق المر، إلا أنه الكيف الذى يزل البنى آدم ويجعله عبدا لرغباته وشهواته وتجعل بلدا كاملا فى غيبوبه كاملة، إلا من رحم ربى
أما آخر حكاياتى مع اليمن فقد كانت الأسبوع الماضى على الرحلة المتجهة لصنعاء وقد كانت الرحلة ممتلئة تقريبا ونصف الركاب من المرضى الذين يتلقون علاجهم بالقاهرة وكان أحدهم يجلس بجوار ابنه الشاب والذى كان يعانى من كسر بالساق يمنعه من الحركة وفى منتصف الرحلة تقريبا سألنى الرجل أن أحضر له كيس بلاستيك وعندما أحضرته له سألنى
أنت متاكد إنه مش مخروم ؟
لأ مش مخروم.. ليه.. أنت ناوى تنفخه
أبدا.. ناوى أعمل شغلة
المهم أعطيت له ظهرى وواصلت توزيع الأكل على الركاب وبين الحين والحين أسمع صوت الرجل وهو يقول لابنه: سدد.. سدد كويس
فأقول ربما بيلعبوا بلايستيشن
يابنى سدد كويس الله يخرب بيتك غرقتنى
فابتدأ الفار يلعب فى عبى.. هوه بيسدد أيه بالضبط ؟
نظرت للخلف فوجدت الفتى رافعا جلبابه والأب واضعا الكيس حول عورته ويقول له: سدد..سدد
وصلت فى اللحظة التى انتهى فيها الولد من التسديد ورايت الرجل رافعا الكيس كأنه كأس أفريقيا وينظر ألى ابنه بامتنان وكأنه أبو تريكة وناقص يقوله الله عليك تسلم رجليك
مشيها رجليك، ونظر إلى رافعا الكيس قائلا : خلاص الحمد لله الولد خلص مش عايزين الكيس
يا سلام، والمفروض بقه أخد الكيس وأبوسه زى أحمد حسن ما باس كأس أفريقيا..يا حلاوة
أيه ده ؟ أيه القرف ده؟ أنت عملت كده هنا ازاى ؟
-أيه يا أخى ما فيش تعاون؟
-تعاون أيه ؟ وموبيل أيه ؟ والناس اللى حواليك ازاى سكتت ؟ وعندما نظرت حولى وجدت الجميع ينظرون فى الفراغ وعلى وجوههم ابتسامة خارقة
جاء رئيس الطاقم والأمن يلوموا الرجل على فعلته ولماذا لم يقل برغبة ابنه فى الذهاب للحمام
وكان باستطاعتنا أن ندبر له الطريقة لنقل ابنه من وإلى الحمام
إلا أننا فوجئنا بنفس الصوت القادم من الماضى يقول
آسف.. أنا آسف..كان لازم أطلب زجاجة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة