منذ فجر التاريخ كان يرمز للعدالة بامرأة معصوبة العينين تحمل ميزاناً، استخدم هذا التعبير عبر قرون عديدة وحضارات مختلفة، وذلك لدلالته القوية ومعناه الواضح فالعدالة هى امرأة لأنها راجحة العقل ورحيمة، وتحمل ميزان دلالة على الحكم العادل الذى يوافق حجم الجرم المرتكب فلا هو أزيد ولا هو أقل، أما معصوبة العينين فدلالة على النزاهة، أى أن العدل لا يحابى أحداً أو يميل لآخر طبقا لأهوائه الشخصية. هذه المعانى السامية والقيم النبيلة اتفقت عليها شعوب الأرض منذ قديم الزمان، كما حثت عليها جميع الديانات الإلهية، حتى الأنظمة العلمانية أقرتها.
وفى داخل قاعات المحاكم توضع هذه الصورة للمرأة المعصوبة التى تمثل العدالة لتذّكر العاملين بقطاع القضاء بالعدل للجميع. فإذا كانت البشرية منذ عهود سحيقة قد اتخذت من المرأة أعلى صورة للعدالة. فكيف جاء قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة برفض تولى المرأة منصب القضاء فى مجلس الدولة، لقد صدمنى هذا القرار، لأنه لا يتعارض فحسب مع مبدأ المساواة بين الرجال والنساء المقر دستوريًا بالمواد 11 و40 من الدستور الذى يساوى بين المواطنين المصريين بدون تمييز على أى أصل أو جنس أو لون، وكذلك المادة الأولى من الدستور، وهو مبدأ المواطنة الذى يقر حقوق متساوية للمصريين جميعا، ولكن لأنه جاء من الجمعية العمومية لمجلس الدولة، والتى من المفترض أن القضاة هم حماة العدل والحق وأن هذا القرار يوضح البعد عن تقدير الدور الكبير الذى تؤديه المرأة بكل همة وعزم. أتمنى أن يصل ندائى إلى الأفاضل من أعضاء مجلس الدولة لمراجعة هذا القرار لأنه سوف يضع مصر فى حرج كبير كأحد انتهاكات حقوق المرأة. خاصة بعد أن رأينا نموذجا مشرفا فى القضاء منذ تعيين السيدة تهانى الجبالى عام 2003 وبعدها تعيين العديد من القاضيات.
وفى الوقت الحالى اختارت مصر إحدى السيدات الفضليات وهى الدكتورة آمال عثمان لتدافع فيه عن ملف حقوق الإنسان المصرى مع أحد جهابزة القانون فى مصر، والذى يعنى أن الدولة تضع ثقتها الكبيرة بالمرأة.
إن القضاة هم حملة مشاعل التنوير فى المجتمع ودورهم الأساسى هو مناقشة المشكلات القضائية وليس النوع الاجتماعى. وهم يعلمون جيدا أن مصر لديها تعهدات دولية، ومنها تصديق مصر على كل من العهدين الدوليين، واتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة، ونشرت جميعها فى الجريدة الرسمية المصرية، ومن ثم أصبحت لها قوة القانون وفقًا للمادة 151 من الدستور المصرى. وأحكامها تنسحب بالضرورة على موضوع تولى المرأة لمنصب القضاء، حيث لا تمييز بينها وبين الرجل فى هذا الأمر علما بأنه ستكون لمصر مراجعة فى مارس القادم عن وضع المرأة فى المجلس الدولى لحقوق الإنسان. إن العالم يشهد تغييرات عديدية متسارعة فاذا اهتز ميزان العدالة لدينا فلمن تلجأ المرأة وهذا القرار يجيز اللاعدالة ضدها فكيف ستدافع عن نفسها أمام قضاة مجلس الدولة وهم الخصم والحكم فى آن واحد وهذه اشكالية قانونية معقدة.
إننى على ثقة من نزاهة القضاء المصرى وأعتز باستقلاليته وأعتز أيضا بمجلس الدولة، حيث صدر عنه أحكام كثيرة تقر حقوق الإنسان المصرى بدون تمييز؛ ولذا يحدونا الأمل بإمكانية معالجة هذا القرار بشكل يحمى الحقوق الدستورية للمرأة التى تشكل نصف المجتمع، فالمجتمع المصرى أرقى مما نتصور فى نظرته للمرأة وتطبيق العدالة الاجتماعية، ولا يهمه جنس من على منصة القضاء ولكن يهمه عدالة القضاء.
إن العالم أجمع يرتب فى 8 مارس القادم للاحتفال بالذكرى المئوية لأول مؤتمر عالمى يتحدث عن حقوق المرأة والذى عقد فى كوبنهاجن فى 8 مارس 1910 والذى أصبح فيما بعد يوما عالميا للمرأة. فهل نرتب نحن أيضا الاحتفال الذى يليق بالمراة فى هذه المناسبة، وذلك بأن تعيد الجمعية العمومية لمجلس الدولة فتح باب المناقشة لهذا القرار وأن تبادر بعقد جلسات استماع للمهتمين بهذه القضية لسماع وجهات نظرهم. ولنتذكرالحكم التاريخى لمجلس الدولة عام 1948 برئاسة المستشار الدكتور عبد الرازق السنهورى، والذى أصّل الحق الدستورى والقانونى فى تولى المرأة منصب القضاء.
إن العظمة ستكون للرجال من لدى الرحمن عندما يعيدون للمرأة حقوقها التى غلفها الزمن طى النسيان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة