لو لم أكن شرقاوياً لوددت أن أكون بحراوياً، أنتسب للزمان والمكان الذى خرج منه العالم الفذ أحمد زويل.
فعظمة هذا الرجل ليست فى حصوله على نوبل ، ولا اكتشاف الفيمتو ، ولا الميكرسكوب رباعى الأبعاد، فالقيمة الأكبر لهذا العالم المصرى العبقرى أنه يمثل الامتداد الطبيعى لمشروع النهضة العربى، الذى حمله من قبله الحسن بن الهيثم، وابن حيان، والبيرونى، وابن النفيس، وابن سينا، فصاحب نوبل دائم الحديث عن هؤلاء الرموز فى محاضراته وحواراته، وهو بذلك يعى أهمية وخطورة أنه يحمل على عاتقه رسالة أمة بالكامل، ولأنه -علميا- نجح فى تحقيق معجزة السير داخل الزمن، اعتبر أن دخول مصر معه درب الزمن بمثابة زر التفجير ، الكفيل بتفتيت صخرة العجز العربى، لتعود الأمة -وفى طليعتها مصر- لدخول التاريخ من جديد.
يدعو الرجل لبناء قاعدة علمية تؤسس للمشروع العلمى القومى لمصر، يربط بين حقائق التاريخ، وقوانين الجغرافيا، وجدارة البشر، يعبر فكره عن منظومة كاملة من المرتكزات التى تمزج فلسفة المشاركة السياسية بغايات المجتمع وأهدافه، يطرح حلوله العلمية لأزمة مصر، لا كأستاذ كيمياء فزيائية، بل بوصفه حكيماً ومفكراً يغرس فى تربة العقل بذور النجاة.
لكن لماذا نسبت البروفيسير المصرى العالمى إلى البحيرة فى بداية المقال؟
ذلك لأن تراث التجديد والتسامح فى البحيرة بمثابة الجذور الطبيعية لشجرة زويل، فهى البلد التى خرج منها محمد عبده، والشيخ شلتوت، وحمروش، والدمنهورى، والبنا، والغزالى، والتى تحتوى رفات البطاركة الأرثوذوكس فى وادى النطرون، وهى قادرة على صناعة جين نادر من البشر، فخرج من رحمها أيضا توفيق الحكيم وعبد الوهاب المسيرى، وفى عصر الآلام صنعت البحيرة فرحة مصر على يد رجل الإرادة الفولاذية حسن شحاتة.
ومن ثم فرحلة زويل لم تبدأ بأمريكا، بل كانت هناك حلما يوميا يداعبه فى ترحاله اليومى عبر القطار إلى الإسكندرية، حاملا معه بذور لقاح جديدة لأشجار أمة أوشكت أغصانها على الذبول.
تصوروا أن هذا الرجل الذى تفخر به الغيطان والبساتين التقى بالسيد الرئيس، وثلاثة من رؤساء الوزارات حتى الآن، ومع ذلك بدا الرجل كأنه يؤذن فى مالطة، فلا أحد أقام صلاة الغيث، ولا مسئول استقبل القبلة، ونادى بتسوية الصفوف.
ومن عجائب القدر أن وزير الثقافة المؤبد حينما أجاب على سؤال عن إلغاء ندوة تكريم زويل وجويدة فى أوبرا دمنهور قال بالحرف الواحد: "لو مش بنقدَّر زويل كنا منعناه من الظهور فى أى مكان فى مصر، مش بس فى الأوبرا" من هذا؟ وزير ثقافة مصر.... وعمن يتحدث بهذه الطريقة الأمنية المتعالية؟ عن أحمد زويل....طيب والله ما أنا معلَّق.