يصف علماء الآفات السوسة الحمراء التى تصيب النخيل بأنها العدو الخفى، الذى ينخر قلب النخلة ليحولها إلى مجرد لحاء خارجى خاوٍ، عاجز عن الإثمار، ثم تموت واقفة حتى تذروها الرياح.
ويبدو أن سوسة النخيل هذه نجحت فى مصر خلال العقود الأخيرة فى تطوير جيناتها لتصيب أشياء أخرى كثيرة غير النخيل، فباتت تنخر فى أوصالها من أعلاها إلى أسفلها، ومن رأسها إلى أخمص قدميها، حتى تصدعت بنيتها، وأغرت بها السفهاء يقذفونها من كل حدب وصوب، ليس طلبا لثمارها التى نضبت، ولكن سعيا إلى إسقاطها، أو على الأقل اعتلاء جذعها الخاوى.
فهل باتت مصر هى تلك النخلة؟
أعلم أن الكثيرين من المزايدين والحالمين معا، والعديد من الطبالين والرقاصين وكدابى الزفة والرومانسيين معا، وأعدادا من المستفيدين والمضللين والحنجورية والمتفائلين معا، سوف يعترضون على ذلك التشبيه، رافعين كل الشعارات والأغانى وقصائد الشعر، بأن مصر لم ولن تموت، وأنها بخير رئيسا وحكومة وشعبا، لأن الدول الكبرى لا تموت، والشعوب العظيمة لا تنهار، وكل ما يمكن قوله فى هكذا حالات.
وفى الحقيقة لن أختلف كثيرا مع كل من يعترض أيا كانت مشاربه، لأنه يكفى أن نعلق الجرس، ليعرف أصحاب النخلة التى يرونها بخير، أن فى قلبها عدو خفى، وسوس خبيث ينخرها، فإما أن يتداركوها، وإما فعليها وعليهم وعلينا جميعا السلام.
ولأنى لن أختلف مع المعترضين فإنه يجب أن أسأل: هل مصر فعلا الآن هى تلك الدولة الكبيرة التى يتكلمون عنها؟ وهل يوجد دليل واقعى على ذلك؟
الإعلام الرسمى فى مصر كان ومازال "يزنّ فى ودان" المصريين عبر سنوات طويلة بأن مصر دولة كبيرة، وأنهم -أى المصريين- أصل كل الحضارات والعلوم والآداب والسياسات ونبع الحكمة، ومازالوا هم أيقونة الأمم وأسياد الشعوب ومحط إعجابهم وأنظارهم فى كل المجالات.
والعجيب جدا فى هذا الأمر هو أن الناس صدقوا بذلك وآمنوا به وباتوا يواجهون الحياة من منطلقة، فأصبحوا يتعالون على الشعوب الأخرى، ويمنّون عليهم بأنهم فعلوا وضحوا وقدموا من أجلهم، ويطالبونهم طوال الوقت بدفع الثمن والعرفان وإبداء كل مظاهر الخنوع والخضوع أمامهم لأنهم هم من وهبوبهم العلم والكرامة والحرية.
وإذا كان ما سبق أمرا عجيبا، فإن الأعجب والأدهش هو أن يتساءل المصريون اليوم ذلك السؤال الكارثى، لماذا يكرهنا البعض من الشعوب العربية؟
وهو السؤال الذى يشبه فى سخفه سؤال الأمريكان بعد أحداث سبتمبر "لماذا يكرهوننا؟"، والذى جاءت إجابته عفوية على لسان الكثيرين فى العالم: "اللى مايشوفش من الغربال يبقى أعمى".
وحتى أكون موضوعيا فى تناول هذا السؤال فيجب أن أجيب عليه أولا بأنه لا أحد يكره الشعب المصرى كله، ولكن هناك من يكره تلك النعرة، وهو كره عن جدارة واستحقاق، وإذا كنت أكثر عمقا فى التحليل حسبما قابلت من جنسيات عربية، فإنه لا يوجد كره بهذا المعنى العاطفى القاسى، ولكن توجد فقط حالة استياء كالتى تصدر منا تجاه أى مدعى أو مغرور، لأن هذا المغرور بطبعه يغرى الآخرين بالاجتهاد لوضعه فى حجمه الطبيعى، وربما يتطرف البعض لمحاولة إهانته، إعمالا بمبدأ "صفعة على قفا المغرور تفيقه من غروره"، وحتى يثبتوا له أنه لا شىء وأنه لا يستطيع أن يرد الإهانة ولا يتخذ موقفا فعليا للدفاع عن كرامته المسفوحة.
فهل تمتلك مصر ما يرفعها إلى مصاف الدول الكبيرة فى المنطقة كما يحلو لبعض الرسميين أن يصفوها دائما؟ وهل يمتلك المصريون ما يبرر ذلك الغرور؟
قبل أن نحاول البحث عن إجابة لهذين السؤالين يجب أولا أن نعرف ما هى الدولة الكبيرة، حتى نتمكن من قياس هل مصر الآن دولة كبيرة فعلا أم لا.
فببساطة شديدة يمكن لأى شخص أن يعرّف الدولة الكبيرة بأنها التى تعرف حدودها السياسية والقومية والأمنية والثقافية والاقتصادية وتستطيع أن تحمى تلك الحدود فعلا لا قولا، ولا يجرؤ أحد أيا كان أن يقترب من تلك الحدود لأنه يعرف أنه سيقابل بصاعقة.
والدولة الكبيرة أيضا هى تلك الدولة المكتفية ذاتيا، والقادرة على الاعتماد على نفسها وبناء شعبها والتمترس خلفه، لأنه لا دولة بدون شعب عفى ومنتمى.
تلك الصفات قد تمتلكها تركيا وإيران مثلا، أما مصر فللأسف الشديد ومنذ قرابة الثلث قرن وهى لا تتخذ أى موقف حيال أى قضية تمس أمنها أو أمن غيرها، ولم تغضب من إهانة ولم تزأر فى وجه معتد، وهناك الكثير من الحالات التى يمكن التدليل بها، ولذلك أصبح يجربنا الصغار ويختبرنا التافهون فى كل مكان، وفى كل مناسبة يمكن أن نختبر فيه، وفى الحقيقة أننا "سقطنا" فى كل تلك الاختبارات بلا استثناء.
هذا على الموقف الرسمى.. أما الشعبى فحدث ولا حرج.. فلم نر شعبا يتحدث فقط مثلما يفعل المصريون، فهم فقط من يرون أنهم شعب عظيم، دون تعريف لمظاهر العظمة غير تلك التى يشار إليها فى التاريخ الذى ضيعناه وضيعنا. أما الوقت الراهن فيرى فيه الآخرون شيئا آخر غير تلك العظمة التى نحدث أنفسنا عنها.. والمصريون أيضا فقط هم من يرون أنهم متحضرون، فيما تشهد زبالة الشوارع والعشوائيات والأحاديث الطائفية وبذاءة اللسان وفساد الذوق والأخلاق والفن الهابط والتحرشات الجنسية والفساد السياسى وأقسام البوليس وأسلوب الوزراء وحكم رجال الأعمال وأحاديث التوريث التى طالت حتى الأوساط القضائية، كل ذلك يشهد بأن لا تحضّر هناك غير ما يقوله المصريون لأنفسهم عن أنفسهم.
فهل المصريون مخدوعون أم مدّعون؟
رغم صعوبة السؤال إلا أنه يبدو أنهم الاثنان معا، وهو ما يزيد من تعقيد الحالة،فالعقل الجمعى فى مصر مخدوع جينيا حتى النخاع، فكل المصريين بلا استثناء سحرهم الخطاب العام فباتوا يرون أنهم شعب مختار ومميز ومصطفى، وهو ما يظهر فى كل الأحاديث على كل المستويات، أما مبررات تلك العظمة المدعاة فهى معروفة فى كل مرة؛ أولها العراقة والتاريخ والفراعنة، ثم أصحاب نوبل والعلماء والأدباء، ثم تجرى مقارنة سريعة بين مصر والدول العربية الأخرى، بحيث نستخلص منها أننا الأفضل، على أساس أن الأعور أفضل من الأعمى.
هذا هو العقل الجمعى الذى لا تستطيع أن تعفى منه أحدا أيا كانت ثقافته أو انتماءاته الفكرية. وهو فى واقعه مرض عضال ضيع واقعنا ويهدد مستقبل أجيالنا القادمة، لأنه ببساطة إذا كنا بتلك العظمة، فليس بالإمكان أبدع مما كان، ولسنا مضطرين بالتالى لبذل جهد أو لتحسين وضع أو تطوير حال، "لإننا كده كويسين".
أما أن المصريين مدعون فهذا أيضا واقع واضح، ولكن على المستوى الفردى لكثير من الناس، وهو ما يعرفه الناس أنفسهم، بل ويتحدثون فيه ويناقشونه، حيث طالتهم وتطالهم سوءاته بصورة شبه يومية وفى كل المواقف ومناحى الحياة، فالسباك ليس سباكا، ولكنه مدعٍ، بل وربما يدعى أنه كهربائى أيضا إذا كان سيحصل على مقابل، وقس على ذلك كل الأشياء، حتى أن الكثير من الوزراء والمسؤولين والقيادات من أعلاها إلى أدناها يدعون جدارة ليست فيهم، بدليل أنه لا أحد فيهم أثبت نجاحا، رغم حصولهم على العديد من الفرص، ورغم بقائهم فى السلطة -فاشلين- عقودا طويلة، وهو ما يؤكد حالة الخواء التاريخى التى تعانى منه مصر الآن على كل المستويات، وهو يهددها بالتآكل ذاتيا ومن ثم الانهيار.
فهل أصابت سوسة النخيل الشخصية المصرية أيضا مثلما أصابت السلطة منذ سنين؟
بالطبع ككل مصرى أتمنى مخلصا أن تكون الإجابة لا.. إلا أنها نعم.
* صحفى مصرى بجريدة المدينة السعودية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة