ما زال المخرج المبدع "داوود عبد السيد" قادرا على إمتاعنا مجددا بأعمال جميلة ورائعة ومنها تحفته الأخيرة "رسائل البحر" بعد صمت امتد لسبع سنوات منذ آخر أعماله "مواطن ومخبر وحرامى" معتمدا على قصة من تأليفه وإخراجه، فيما عرف بسينما المؤلف التى برع فيها الأستاذ "يوسف شاهين" إمتدادا لهذا النوع من السينما العالمية منذ "شارلى شابلن".
لا أعرف لماذا تذكرت رواية "البيضاء" للعظيم "يوسف إدريس" وكان البطل فيها طبيب أيضا واسمه"يحيى" بنفس اسم ومهنة "آسر ياسين" بطل فيلم الرسائل الذى أدى دوره ببراعة وحرفية شديدين تنبأ بمستقبل واعد وتحسب لداوود عبد السيد على حسن اختياره للكاست، وللممثلة المتميزة "بسمة" التى أدت دور الغانية "نورا" فى دور رائع يضيف رصيدا كبيرا لأدوارها.
اهتم داوود كثيرا كعادته برسم الشخصيات بريشة مدققة لم تهمل أدق التفاصيل، وذلك فى تقديرى على حساب المضمون الذى جاء مفككا مما يوحى أننا بإزاء عمل خالى من المضمون وبلا رؤية محددة، ورسالة غامضة حاول المخرج من خلال الراوى الذى أقحمه فى العمل مثل معظم أعماله أن يقوم بدور الشرح والتوضيح ولكن ذلك لم يساعد ذلك فى فك غموض الموقف.
كما لعبت الكاميرا دور البطولة فى العمل، وخاصة فى التركيز على جماليات الإسكندرية، ونمنمات العمارات القديمة بالمنشية وبحرى، واهتمام خاصة بالألوان والإضاءة، مع تسجيل حى وتفصيلى لغضب البحر ومشاهد "النوّة" والتى رغم جمالها أعطتنا إحساسا بإقحامها على العمل، متأثرا فى ذلك بملكاته التى اختزنها من طول عمله فى السينما التسجيلية.
ربما حاول المخرج إيصال رسالة للمشاهد من خلال الشخصيات الرئيسية بضرورة التسامح كرؤية إنسانية، ومن خلال الوضع الكوزموبلوتانى للمدينة، وبالروح العامة التى سادت طوال الفيلم من معظم أبطاله وحواره، موقف "محمد لطفى" (قابيل) الخارق القوة والذى يرفض استخدامها فى الضرب رغم أن دوره فى الفيلم القيام بتأديب المشاغبين من خلال وظيفته كبودى جارد، وموقف يحيى من الآخرين والحياة عامة وخاصة من نورا، كذلك ما جسدته الممثلة ذات الحضور الإنسانى الجميل "نبيهة لطفى" والتى قامت بدور الأم "فرنشسكا"، والاستثناء الوحيد كان فى "صلاح عبد الله" صاحب العمارة"الحاج هاشم" والممثل للوجه القبيح للرأسمالية المتطفلة الجديدة التى تطفو على كل جوانب المجتمع والذى تفوق فى دور الشرير، وإن كان رسم الشخصية فيه درجة من المبالغة من قبل المؤلف.
نأتى إلى الرسالة الحقيقية للبحر فى الفيلم، وهى الورقة المكتوبة بلغة غريبة فى الزجاجة التى ألقى بها البحر للبطل، والتى قد تكون تيمة الفيلم الرئيسية، حيث لم يستطع فك طلاسمها رغم استعانته بالقواميس، وبالناطقين بكل اللغات الأوربية دون جدوى، والبحر كبطل فى ذاته يمثل فى الفيلم سطوة الإله عندما يغضب وعندما يمنع ويرضى.
توجد كثير من مناطق الضعف فى الفيلم، فقد سقط المخرج (المؤلف) فى تقليد السينما السائدة بإقحام موضوع الشذوذ والمثلية بلا مبرر مقنع، فما معنى التحول السريع والمفاجئ للمثلة المبدعة "سامية أسعد" والتى مثلت دور الابنة وصاحبة الأتيليه (كارلا) لمجرد التقائها بزبونة مثلية، بعد أن عاد إليها حبيبها القديم، كذلك التناقض فى رسم شخصية نورا، واعترف أننى لم استطع فهم مبررات احترافها لمهنة الدعارة، والتشويش الذى أحاط بنهاية الفيلم الذى اختلط علينا حول حقيقة موقفها، والإفراط فى ذكر كلمة "مومس" حتى أننى كففت عن العد بعد الرقم سبعة، أيضا حالة الاستسلام غير المبرر ليحيى وأسرة فرنشسكا من محاولة هاشم طردهم من السكن، ولا أعلم معنى المشهد الأخير لخروج يحيى ونورا من العمارة وأحد رجال هاشم يصرخ خلفهم (ابقوا روحوا إنضفوا قبل ما تسكنوا) وإذا ما كان ذلك يعنى تركهم الشقة بشكل نهائى أم هى طريقة المخرج بترك النهايات المفتوحة.
لا شك أن الصورة البديعة التى رسمها داوود للإسكندرية تعد من أجمل اللوحات بالفيلم، وتعمده عدم تحديد الإطار الزمنى لهذه الفترة، وإن كنت كمعايش للمدينة أشعر أنها من رائحة السبعينيات وبقايا الوجود الأجنبى بها.
خلاصة القول أن سينما المؤلف لم تثبت أقدامها بعد عندنا رغم طول مدة تجريبها، فأعظم أعمال يوسف شاهين فى تقديرى هو فيلم الأرض عن رواية "عبد الرحمن الشرقاوى" وليس تلك الأعمال التى قام بكتابتها، وبالمناسبة فقد كان داوود عبد السيد مساعد مخرج فى هذا الفيلم، كما أن أعظم أعمال داوود هو فيلم "الكيت كات" عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان.
فى النهاية أجد لزاما على تقديم تحية واجبة لكل من آسر ياسين وبسمة والفذ محمد لطفى الذى قبل بوضعه فى الأدوار الثانية، وكذلك للممثلة والمطربة "مى كساب" ذات الشخصية المرحة والمحببة فقد كان دورها فى الفيلم رغم هامشيته جميلا ولا أجد غضاضة فى قبولها له.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة