خرجت أغلب الدول العربية من تحت قيود الاستعمار الأجنبى، فى القرن العشرين. وكان الاستعمار غربى بالأساس. ولذا فإن الضغط الغربى، من أجل الديمقراطية، يُنظر إليه على أنه امتداد للاستعمار بوسائل أخرى. وإن كان هناك استعمار مُقنع فى كثير من الأحيان، بسبب الشئون الاقتصادية أو الإستراتيجية، إلى حدٍ أكبر، فإن الأمر لا يتطلب زيادة هذا التأثير الخارجى، من قبل من هم يحاربونه فى الأساس.
ولا يخفى على أحد أن الغرب لديه مصالح فى الدول العربية. وهو بذلك لا يهمه إن كانت تلك الدول ديمقراطية بالطريقة المُثلى، وإن همه، فإن ذلك ليس من أجل الديمقراطية فى حد ذاتها. إن القرار يُصبح أصعب فى النظام الديمقراطى، لأن القرار يأخذ فى الحُسبان، رؤى الكثير من التيارات فى الدولة الواحدة. وهو الأمر الذى يمكنه أن يُعرقل فى تلك الحالة، المصالح المتعارضة مع الغرب. إلا أن الديمقراطية ليست كلها بالطبع فى صالح الغرب. ولا يمد الغرب يده بالمُساعدة، ما لم يأخذ فى المُقابل نظير هذا الدعم.
ولقد اعتمد الكثيرون من المعارضة فى مصر على وجه الأخص، على الغرب من أجل الضغط على النُظم، من أجل فرض الديمقراطية أو إزالة القمع. إلا أننى أرى أن هذا الضغط، ليس فى محله، حيث إن الغرب اليوم، يعقد الكثير من الندوات، المنددة بكون عالمنا العربى لم يقلب الأمور إلى ديمقراطية حقيقية بعد، رغم أن هذا الغرب ذاته يعلم أن الديمقراطية بمكوناتها المختلفة، لا يُمكنها أن تأتى بعد تاريخ القمع الذى مرت به الدول العربية كلها تقريباً، فى سنوات قليلة، وإنما يلزمها على أقل تقدير عقد من الزمان، كى تترسخ فى وجدان الشعب وآليات النظام. أما عن القمع فقد قل وجوده فى دولنا، رغم استمراره.
إن الشعوب العربية أيضاً وفى حال تدخل الغرب للعمل على قلب النظم العربية إلى نظم ديمقراطية، لا تُرحب. وقد ظهر هذا فى العراق. ولو أن النموذج العراقى كان النموذج المتطرف فى القيام بهذا، ويستغرب الغربيون كثيراً عندما يشاهدون عراقيين حزانى على مضى أيام قمع صدام حسين. والكثيرون فى العالم العربى، عندما يسألون حول المقارنة ما بين صدام والنظام العراقى الحالى، يشيرون إلى العنف فى الشارع العراقى ويتندرون على أيام صدام! وقد يكونون مُحقين فى جزء مما يقولون به. إلا أن المواطن العربى، ولأنه مواطن غاية فى العاطفية، لا يرى المنطقة الرمادية بين بديلين. فالأمر هو إما كره أو عبادة! ونظام صدام حُسين وبغض النظر عن كل ما نمر به من ظروف خاطئة، لم يكُن هو النظام الأمثل، والنظريات التى نسمعها من وقت إلى الثانى، حول أن العراقيين لا يستحقون إلا هذا النوع من الحُكم العنيف، ما هى إلا تعبير عن نوع من العُنصرية فى رؤية الآخر. فليست النتيجة التى تحققت على الأرض من عنف مُستمر، هى الأفضل، كما لم يكُن عصر صدام هو المثالى. إلا أن رغبة المواطن العربى فى الديمقراطية ونقمته على الحاكم فى بلده، (أياً كان هذا الحاكم)، وحزنه فى الوقت نفسه على زوال حُكم الطاغية صدام حسين، ليدل على تضارب فى الرؤى، لا يمكن أن يتعايش معاً!!
والمعارضون الذين نددوا بالولايات المتحدة الأمريكية فيما قامت به فى العراق، هم أنفسهم الذين يمدون أيديهم لها، لتساعدهم. وهو أمر غاية فى الشيزوفرنيا. إلا أنهم بالفعل، يمدون أيديهم إلى الولايات المتحدة، لتساعدهم، وليس لتساعد بلدهم، بل إن المعارضين الحاليين فى مصر، وفيما يبدو من أسلوب المعارضة التى ينتهجونها، سيكونون أسوأ حالاً من الأنظمة الحالية، لو أنهم وصلوا للحكم مما سيجعل من يعارضهم، ووفقا لرؤيتهم الحالية، يلجأ أيضاً إلى الخارج، فهل فكروا فى موقفهم وقتها؟!
إن مسألة اللجوء إلى الخارج واستيراد ديمقراطية مستوردة ومُملاة، لن يجدى، حتى ولو كان هذا نافعاً لوقتٍ ما. فسماع بوش الابن يردد منذ عدة سنوات أنه يريد للدول العربية أن تنتهج ديمقرطية، متوافقة مع الأسلوب "الأمريكى" يجب أن يجعلنا نفكر مرتين، قبل أن نرى فى الولايات المتحدة المُعين لنا، حيث إنه لا يوجد على مستوى العالم كله، ديمقراطيتين متشابهتين. فبينما النظام السياسى للديمقراطية الأمريكية والفرنسية، يعتمدان على الشكل الرئاسى للحكم، فإنهما مختلفتين إلى حدٍ بعيد. كما أن تشابه النظام الملكى البريطانى والإسبانى هو فى الشكل العام، وليس فى التفاصيل. أى أننا وفى النهاية يجب فى مصر أو السعودية أو سوريا أو السودان أو المغرب أو غير ذلك من الدول العربية، أن يكون لنا، كلُ على حدة نظامه الخاص المعتمد على خصوصية تجربته، وإن سُميت كلها فى النهاية، بالأنظمة الديمقراطية.
إن الحلول الخاطفة المستوردة التى تُعبر فقط عن تسكين ما، لن تُجدى على مدى الدهر. والذين يقومون بتلك الأفعال، مهما كانت قضاياهم عادلة، يتخطون منطق الحكمة. إن أساس الفعل لكى تُبنى الديمقراطية فى أى مكان، يجب أن ينبع من البشر الذين يُعايشون المُشكلة وليس من خارجهم. وأعتقد أن المعارضين يعلمون بهذا جيداً. وأعرف مدى الصعوبات التى تعترى عملهم، ولكن ما لم يكن لهم رؤى واضحة (وهو الشىء الذى هو غائب بالفعل، أو هم لا يعرفون كيف يعبرون عنه)، فان كل ما يفعلون من اعتماد على مساعدة الخارج، يصبح فعلا عشوائيا فى جوهره.
إن ما يجب وأن تقوم به المعارضة اليوم، هو إعادة ترتيب أوراقها من جديد، لتُحضر لما هو قادم من إبراز مشاكل الناس، المدمجة بحلول عقلانية، من واقع هؤلاء الناس، وليس من بلاد الصقيع، وعلى المعارضة، أن تعمل على توعية المواطنين فى شتى الدول العربية، لكى يكون لقادتها دور حقيقى، غير مجرد البحث عن السلطة، لأن السلطة لن تتبدل عن قريب، حيث إن "الديمقراطيات الديكتاتورية" مازالت تُعشش فى أقطارنا، ليس فقط على المستوى القيادى، ولكن على المستوى الشعبى أيضاً. وبالتالى، يجب أن يتعلم الناس كيف يتحاورون ويتعايشون مع من يختلف معهم ومع آرائهم، إن تلك هى أهم زاوية فى كل عمل المعارضة ومنظمات المجتمع المدنى اليوم.
*****
لقد كتبت مقالاتى الثلاث، مُركزاً على التجربة المصرية أكثر من غيرها، لأن مصر هى التى يجرى فيها أكبر حراك ديمقراطى "مُستقل" فى المنطقة. فلا هى تتأثر بدولة مجاورة تتدخل فى مُجريات السياسة الداخلية فيها ولا هى تتبع أجندة خارجية فى الإصلاحات التى تقوم بها، إلا فى خطوط عامة منذ أمد. ولا هى داعمة لخطوط التشدد الأصولى أو ناشرة له، كما ظهر فى أحداث 11 سبتمبر 2001. إلا أن مصر، ودون شك تُعانى، ولن تخرج مصر الدولة مما تعانى منه، إلا إذا بدأت عملية توعية كبيرة يستخدم فيها التدريب والإعلام ومناهج التعليم المتغيرة، وحدث فيها حوارات كبيرة بين مختلف القوى، لرسم مستقبلها. إننا فى حاجة، إلى عقد اجتماعى جديد، لنخرج مما نحن فيه فى مصر، وستلحقنا بقية الدول فى المنطقة، وإن كان منها من يقوم بتجارب رائدة اليوم فى مجالات مختلفة. إن الديمقراطية تحتاج إلى مجهود، من الجميع: الدولة والمعارضة المدنية ومنظمات المجتمع المدنى كى تساعد فى نشر الوعى الديمقراطى فى البلاد. وعلى المواطن أن يقرأ، وأن يُعلم غيره كيف يقرأ!
• أستاذ علوم سياسية.