"أنا سنوحى.. ابن" سنمت "وزوجته "كبا"، اكتب هذا.. ليس من أجل مجد آلهة، أو ضد "كم"، إذ إننى سئمت من الآلهة، ولا أنشد تمجيد الفراعنة، لأننى ضجرت من أفعالهم.. لا أكتب بدافع الخوف، ولا بدافع أى أمل فى المستقبل، بل أكتب لنفسى فقط..
لقد رأيت فى حياتى وعرفت وخسرت الكثير، بسبب فزع عقيم، مفتشاً عن الخلود، ولقد سئمت من ذلك مثلما سئمت من الآلهة والملوك.. لذا أكتب هذا لنفسى فقط، وهكذا أختلف عن كل من كتب قبلى وسيكتب بعدى.. فأنا سنوحى الإنسان الذى عاش فى كل إنسان قبلى، وسأحيى فى كل من يحيى بعدى، فى بكائه ومرحه، حزنه وخوفه، خيره وشره، صوابه وخطأه، فى ضعفه وقوته.. سأكون إنساناً مؤبداً فى إنسانيته، ولهذا لا أطلب قرابين على لحدى، ولا خلود لاسمى.. هذا هو ما كتبه سنوحى المصرى، الذى عاش فى العزلة طوال حياته...
***
ربما يعرف البعض أن "فنلندا" هى أرض النوكيا، وربما عرف البعض الآخر أنها أرض شمس منتصف الليل، أو عرف حمام البخار الفنلندى.. إلا أنه ربما لا يعرف أحد شخصيات مثل جون سبيليوس الذى يعد أهم موسيقار فنلندى، وهو الذى وضع السيمفونية المصاحبة للملحمة الشعبية الفنلندية "كالافيلا" .. وشخصية أخرى مثل الكاتب الذى كتب روايــــة "المصرى"، رغم أنه لم يزر مصر على الإطلاق، وتدور روايته حول شخصية "سنوحى"، هذا الكاتب هو "ميكا والتارى" الذى أدمن الاكتئاب، وانتهت حياته فى مصحة عقلية.
ولد هذا الكاتب فى 19 سبتمبر 1908، ومات فى 26 أغسطس 1979، وتم الاحتفال فى العام الماضى بالذكرى المئوية لميلاده.
وكان أبوه قساً مات عندما كان ميكا فى الخامسة من عمره، وقد التحق بجامعة هلسنكى لدراسة اللاهوت، إلا أنه قرر أن يغير دراسته إلى العلوم الإنسانية والآداب والفلسفة، وكانت رسالته فى الماجستير عن "الدين والجنس"، وقد بدأ نشاطه الأدبى مبكراً، وصدر أول كتاب له بعنوان "الخديعة الكبرى" عام 1929 وهو يصور رحلاته ما بين المدن الأوروبية، ثم كتب رواية "الملاك الأسود" التى صور فيها سقوط القسطنطينية عام 1453، وأثناء الحرب العالمية الثانية عمل فى جهاز استعلامات الجيش الفنلندى، وقد تركت هذه الحرب آثاراً نفسية عميقة فى الكاتب، ظهرت فى كتاباته اللاحقة.
فى عام 1945 صدرت روايته "المصرى" التى ترجمت فيما بعد إلى ما يزيد على ثلاثين لغة، كما تحولت إلى فيلم سينمائى.. ترجمت إلى اللغة العربية وكتب مقدمة الترجمة عميد الأدب العربى الدكتور / طه حسين.. وقد أظهر والتارى فى هذه الرواية قدراته الفنية الهائلة، والخبرة التى اكتسبها خلال السنوات السابقة، وهى تعكس اهتزاز القيم الإنسانية فى عالم تسيطر عليه المادية فى إطار تاريخى، إلا أنه كان إسقاطاً واضحاً على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إنه يصور حياة شخصية خرافية استمدها من شخصية "سنوحى"، وهى شخصية تاريخية مصرية حقيقية، ويضعها فى إطار فترة حكم إخناتون (الأسرة الثامنة عشرة)، يعمل بطل الرواية طبيباً فى القصر الملكى، بينما تعود الشخصية التاريخية الحقيقية إلى الأسرة الثانية عشرة. وكان الكاتب قد سبق له أن عالج شخصية "إخناتون" فى مسرحية عرضت فى هلسنكى عام 1938.
***
رغم الفوارق العديدة ما بين القصة الحقيقية للمواطن المصرى "سنوحى"، والشخصية الأدبية التى أبدعها "والتارى"، إلا أن ما يجمع بينهما هو "لسعة الاغتراب"، وحكمية الأقدار التى تحركهما.. كلاهما يفر من الوطن، وهذا الفرار غير مبرر للشخصية التاريخية الحقيقية، وإنما يمكن البحث فى الظرف التاريخى المصاحب له، فقد بدأت رحلة الهروب فى اللحظة التى سمع فيها "سنوحى" بخبر موت الملك "أمنمحات الأول"، خلال وجود سنوحى ضمن حملة يقودها ولى العهد "سنوسرت الأول" على الحدود الليبية، وقد توافرت بعض الأدلة المعاصرة على أن أمنمحات قد مات مقتولاً، فهل كان المواطن المصرى "سنوحى" متورطاً فى مؤامرة الاغتيال، ففر خوفاً على مصيره؟ خاصة أنه كان يعمل فى البلاط الملكى (الحرملك).
إن سنوحى بعد عودته من رحلة الاغتراب، وعندما وقف بين يدى الملك، أعطى تفسيراً غيبياً لهذا الهروب، فقلبه هو الذى دفعه لذلك، وكذلك الآلهة!!، وهو تفسير هروبى لرجل تبدو من روايته مدى واقعيته وعقلانيته التى أهلته لقيادة قبيلة فى أرض المهجر.
أما "سنوحى" الفنلندى، فهو يفر من شعوره بالعار، بعد أن تسببت معشوقته فى إذلاله والحط من قدره، لقد كان ضحية الحب، بقدر ما يبدو الأول كان ضحية السلطة.
ما يجمع أيضاً بين الشخصيتين هو الشاعرية المفرطة، والشوق الدائم للعودة إلى أرض مصر "أجمل بلاد الدنيا"، إلى النيل "الذى إذا شربت من مياهه مرة، فلا يمكن لأى نهر آخر أن يروى ظمأك".. إنه الحنين إلى التراب الذى شب عليه، وإلى الذكريات التى التصقت بالمكان بشكل قدسى، وهذا الحنين يعبر عنه فى كلا النصين بتعبيرات شديدة الرقة والشجى.
يقول "سنوحى" بطل الرواية: "إنه كلما زادت المعرفة، ازداد الألم، وأنا لست إنساناً سعيداً"، ويقول فى موقف آخر: "الحب عند النساء مثل الريح، تهب دائماً ولكنها تغير اتجاهاتها"، ويقول لحبيبته التى راحت ضحية الآلهة: "لقد ضجرت من كل الآلهة التى صنعها الإنسان لنفسه بسبب الخوف، كما أعتقد.. اتركى هذا الرب، لأن مطالبه وحشية ولا معنى لها.. سوف آخذك معى إلى رحلة لحافة الدنيا أبعد من سطوة ربك.. لابد أن هناك حدودا لسلطة هذا الرب".. وفى الحرب يقول سنوحى: "العدو المتخاذل، هو عدو نصف منهزم".
لقد استلهم الكاتب الفنلندى "والتارى" من شخصية "سنوحى" التاريخية العمود الفقرى لروايته، ولكنه أضاف من خياله المبدع بناء روائيا متكاملا، أتقن فيه تصوير الصراع الداخلى للشخصية الرئيسية فى علاقة جدلية مع دوائر الصراع الأخرى السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، كما ظهر أثر الدراسات اللاهوتية التى حصل عليها الكاتب (وهو فى النهاية ابن راهب)، فى تناوله للمعتقدات الدينية لدى قدماء المصريين، وقد كان تناوله الساخر لكهنة المعابد المصرية، وكذلك تصويره للشك الذى ملأ قلب سنوحى تجاه الدين، كان ذلك – ربما – إسقاطا لما يعتمل فى نفس الكاتب على الشخصية الرئيسة فى روايته (لا ننسى أن الكاتب سبق له أن عاش فى فرنسا حياة بوهيمية، واعتنق التوجـه الليبرالى المتحرر).
***
أنا الذى عاش فى الوطن بلا وطن، وعندما اغترب لم يغادره الوطن.. أنا "سنوحى، عبد التواب، جرجس، لطفى، منتصر.. وتلك أهازيج غربتى فى أرض النوى، فى الصحراء، فى الموانى والمطارات.. على أرصفة البعاد الباردة، أقضم أنامل الوحدة محترقاً بشوقى إلى أنس الدردشة فى الوادى البعيد، إلى رشفة من" حابى" تبلل ظمأى، إلى صدر أمى كى أريح من عناء السف.
أنا الذى طاردته لعنة مجهولة، أرسلته إلى المنافى، كى يظل مشنوقاً فى عيون الغرباء، مسلوباً من تاريخه، مصلوباً على جدران الهوان الباردة.. أنا "سنوحى" المتكرر منذ قديم الأزل، المطرود اختياراً من الفردوس إلى جحيم البقاء بلا أمل.. أنا الجرح الذى ينزف فوق رمال صحراء التيه، ولا يندمل...
أكتب هذا دون رجاء من أحد فلقد سئمت الرجاء والطلب.. دون بهجة القلب أو خفقة الأمل.. أكتب فقط من أجل حفيدى "سنوحى" الذى يقبع فى رحم السر، فقد يفكر ويتدبر أمره ويتخذ قراره بعدم المجىء.
• عضو اتحاد الكتاب المصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة