المتابع الفطن لأحوال شعوب أمتنا يرى عجبًا، فعلى امتداد الخارطة يسعى الجميع إلى تجربة طرق مختلفة لصناعة الفرح الذى حرموا منه بعد أن أعياهم الحزن ، وقد تعددت الصور، من ساع وراء برامج المسابقات ليحقق حلمه بالثراء الذى يتصور أنه سيجلب له كل سعادة إلى السعى وراء برامج صنع النجوم لنيل فرصة يظنها أكثر الشباب أنها ستكون مفتاحا للسعادة والفرح، وطبعا مرورا باختلاق المناسبات المختلفة وإحياء الاحتفالات المنسيه والقوميه والمغالاة فى إبراز مظاهر الفرح بأشكال جديدة على عادات وتقاليد أبناء أمتنا، وصولا إلى إحداث انقلاب فى المفاهيم بتحويل كل مناسبه أو تظاهره ثقافيه كانت أو رياضيه أو سياسيه مجالا للاحتفال وإبراز مظاهر الفرح والسعادة بشكل مبالغ فيه .
ولا أرى هذا إلا انعاكسا لأحزان وهموم أبناء الأمة التى جعلتهم يبحثون عن فتات الفرح وسط أكوام الحزن الذى يعيشونه ويعايشونه يوميا، وهم إذ يمارسون تلك المبالغات فإنهم كالعطشان الذى يغريه السراب، ولعل المراقب لحال الأمة يلحظ كثرة مظاهر الاحتفالات ومحاولات صنع حالة فرح سواء من الشعوب أو حتى من الحكومات التى تحاول من خلال تلك الحيلة المشاركة فى عملية التعتيم والتمويه دون أن تدرى أنها تؤسس لبركان قد يثور فى أى لحظة ويخرج عن السيطرة إذا ما تسارعت وتيرة تلك المبالغات فى خلق حالة فرح خوائية تخلو من المضمون وتعتمد بشكل مباشر على مهارة صانعيها من الدجالين والمنتفعين.
ولعلنا إذ أخذنا مثالا على ما وصل إليه حالنا يكون الأوضح هنا مجال الرياضة بصفه عامة وكرة القدم بصفة خاصة ، فإذا نظرنا بعين الاعتبار لما حدث خلال الفترة الماضية نرى أن كرة القدم كرياضة بدلا من أن تكون سببا مباشرا فى التنافس الشريف ورفع قدرات أبنائنا أصبحت سببا فى الفرقة والتنابز، ومعولا ساهم بالكثير فى هدم ما تبقى من أطلال وحدة أمتنا، والعجيب والذى يدعو للدهشة أن بلدين كبيرين كمصر والجزائر بتاريخهما الكبير ونضال أبنائهما فيما مضى يتحولان بأيد خفية تحرك الأمور لصالحها إلى طريق العداء والثأر والاقتتال بين أبناء شعبيهما، والمدقق يجد أن الأمور فى البلدين تكاد تكون متشابهة إلى حد بعيد، فالقيادة هنا وهناك ديكتاتوريه تسعى لتحقيق مصالحها ومصالحها فقط والأحوال الاقتصادية فى البلدين متشابهة ونسبة البطالة ومعدلات الفقر والجهل، وإنعدام الخدمات الأساسية التى يجب أن يتمتع بها أبناء الشعبين تكاد تكون منعدمة.
وهنا تظهر الحاجة لإلهاء أبناء الشعب بقضايا تبدو وطنية فى ظاهرها شيطانيه فى باطنها، فبدلا من أن تتم المنافسة فى كرة القدم فى إطار أخوى يقرب بين أبناء الأمة يتم غرس روح الفرقة والاقتتال بين أبناء الأمة وعلى أعلى مستوى بتوجيهات من رأس الهرم القيادى وبدلا من توفير فرص عمل للشباب أو رفع مستوى المعيشه نرى إمكانات الدولة ومواردها تسخر لنقل المشجعين لمؤازرة فريقهم وكأن كل مشاكلنا اختزلت فى مباراة لكرة القدم التى هى رياضة بالأساس فيها الفوز والهزيمة واردة هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى حملة إعلامية مسعورة انطلقت بتحريض من بعض الجهلاء وأعداء الأمة لكنها تفاقمت بعدما وجدت الدعم من رؤوس القيادة فى البلدين لتتم الأمور فى شكل ثأرى يعد له بشكل مدروس لإشغال الملايين بقضايا تافهة عن قضايا مصيريه تتعلق بأمن الأمة ومصيرها، وتصرف طاقة شباب الأمة فى منازعات غوغائيه لا طائل من ورائها سوى فضح أسلوب تفكيرنا وسطحيتنا وهمجية طرحنا وتناولنا للأحداث وتعطى انطباعا سيئا عن أمتنا لباقى الشعوب عن طريقتنا فى تناول ومعالجة أمورنا البينية نحن أبناء الأمة الواحدة، وتفرض شكلا من أشكال التخلف على تعاملنا وطريقه تفكيرنا، وبالتالى تجعلنا فى موقف المدافع حين نستفيق من غفلتنا فنبدأ فى استنزاف طاقتنا فى إيضاح وتفسير مواقفنا والدفاع عن أفعالنا فتهدر طاقتنا وتضيع هيبتنا ونحن نستميت شرحا ودفاعا عن أنفسنا وعن مواقفنا.
ويتحقق من وراء كل هذا المراد لشرذمة الحكم هنا وهناك فلا يعد هناك وقت للمعارضة أو النقاش أو المساءلة، فقد تبددت طاقتنا فى الغث من الهراء والتناحر والاتهامات المتبادلة بتشنج من العامة وبتشجيع وتأجيج منسادة الحكم المنتفعين مما يحدث، واعتماد خطط لتوسيع دائرة الخلاف ليشمل الجميع فيتلهى أبناء الأمة وينشغلون بقضايا تافهة عن قضايا الحريات والعدالة والتقدم، ينشغلون عن حالة الحزن العام التى شملت الجميع بعدما عم الغلاء وقيدت الحريات وانهزمت النفوس امام شبح الفاقة والعوز والقهر.
أعود إلى ما بدأت به (صنع الفرح) فبعد كل ما يجرى من تخطيط وضعنا مثالا واحدا عليه ، لا يجد الغالبيه العظمى من أبناء الأمة سوى التمسك ببقايا وأطراف أى بارقة أمل أو مشروع بسمة ليصنعوا منه فرحهم الخاص وليس أدل على هذا من المسيرات المتفجرة التى تعقب أى نصر كروى لفريق على آخر بصوره تكاد تكون جنونية ومبالغا فيها وكأن الجميع يريد ألا ينسى معنى الفرح، فيتمسك بتلابيب أى فرصه لتحقيق فرح خاص من صنع أقدام لاعبى الكرة بعدما عز وجود أى فرح من نوع آخر، وبات الفرح ترفا لا يقدر على معايشته الغالبية العظمى من أبناء الأمة، فاختصر الفرح فى مناسبات معينة قد يكون يوما وطنيا أو نصرا كرويا كان يمر قبل دون جلبة وباتزان للمشاعر، لكن الىن وبعد أن عز الفرح أصبح الجميع نساء ورجالا شيوخا وأطفالا يخرجون فى احتفاليات صاخبة بحثا عن السعادة ومحاولة صنع حالة من حالات الفرح ولو وقتيا لطرد أشباح الحزن التى سكنت النفوس وتغلغلت لتتمكن من أرواح الجميع فى قسوة.
حين يعم الظلم وتقسو القلوب وتتصحر الأنفس ، تبدأ رحلة البحث عن أى بقعة ضوء ، عن أى نسمة فرح صادقة أو كاذبة، يبدأ الجميع فى حياكة دمى السعادة من خيالات الوهم، وصنع هالات من- الفرح- الوهم من أى مناسبة أو فاعلية صغرت أو عظمت، والسؤال الأخير هنا هل يفلح هذا التوق للانعتاق من بؤرة الأحزان التى غمرتنا على مدار سنين عجاف حفلت بكل ما هو ردىء فى صنع حالة من حالات الفرح تنجينا من الموت كمدا ولو وهما؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة