رحلة طويلة على مدار 56 عاماً داخل صناديق خشبية سيئة التهوية بدائية الصنع امتدت إليها أيدى العبث والتبديل والفحص خرج بعضها من سجن الصناديق إلى صالات المزادات ولم يعد والبعض الآخر اختفى، وما تبقى أصابه التلف.. قصة تحمل الكثير من الغرائب التى تدل على سوء الإدارة وفساد صغار موظفى الدولة وتضارب القرارات.
بدأت الرحلة عام 1953 عندما أصدرت محكمة الثورة أحكاما وقرارات من بينها مصادرة ممتلكات أسرة محمد على وكان من بين تلك الممتلكات مجوهرات ومقتنيات شخصية للملك فاروق والأسرة المالكة.. كانت أجهزة الدولة المعنية فى ذلك الحين غير مهيئة فنياً للتعامل مع تلك المجوهرات فعوملت باعتبارها أشياء عادية شأنها شأن مضبوطات يتم التحفظ عليها على ذمة أى قضية فأودعت كإحراز غير موصوفة بالبنك الأهلى.
ظلت المجوهرات والمقتنيات عامين كاملين داخل صناديق فى بدروم أسفل البنك الأهلى بوسط القاهرة بالمبنى القديم وكانت تلك العهدة على ذمة موظف بوزارة الخزانة حتى 1959 إلى أن تم جردها فى محضر من ورقة واحدة حمل عبارة تقول إن العدد مطابق للحكم بالمصادرة والعهدة سليمة والصندوق لم يفتح وسلمت الأحراز إلى وزارة الخزانة!.
كان من المفترض أن تقوم الوزارة إما بجردها وعرضها فى متحف أو أن تقوم بفتح الصناديق وبيع محتوياتها بالمزاد العلنى وهو مالم يحدث للأسف ومع مرور الوقت كانت تظهر قطع منها فى صالات المزادات للبيع كل فترة دون أن يسأل أحد ما مصدر تلك المجوهرات التى يتم عرضها للبيع رغم أنها من الأموال المصادرة!.
تنبهت أجهزة الدولة فى يناير 1962 فيما يبدو أن هناك صناديق كثيرة بوزارة الخزانة مصادرة بأحكام من محكمة الثورة وكان الأمر أكبر من تصرف موظفى الوزارة فتم رفعه لرئيس الوزراء فصدرت توجيهات عليا لوزارة الثقافة لعرضها متحفياً وكانت تلك التوجيهات بسبب مهزلة عرض المجوهرات للبيع كل فترة فى مزادات حتى تدخل الرئيس جمال عبد الناصر بإصدار تعليمات بالانتفاع بالمجوهرات فى الأغراض المتحفية وتوجيهات بالتحقيق فى وقائع ظهور المجوهرات بصالات المزادات رغم أنها متحفظ عليها.. والحقيقة التى لم تذكر فى التحقيقات التى أجريت فيما بعد أن تلك الصناديق تم تجريدها من محتوياتها بدلاً من جردها!.
كان قرار رئيس الجمهورية قراراً عظيماً وكان يستطيع أن ينهى عزلة المجوهرات بعد عشر سنوات ظلت فيها حبيسة الصناديق ولكن تأتى الرياح دائما بما لا تشتهى السفن.. فقد كان هذا القرار بداية الدخول فى سراديب العزلة لسنوات أخرى طويلة.
فى عام 1962 سلمت الصناديق وعددها 63 صندوقاً إلى وزارة الثقافة وتم عمل خطة للجرد تشمل الوصف، والوزن، العيار، أنواع المعادن، وعدد الأحجار الكريمة، وحررت كشوف بالمحتويات وقرر الوزير اعتبار هذه الكشوف هى أصل العهدة وتعاقب تشكيل لجان الجرد التى ظلت تفتح وتغلق الصناديق وما بينهما من عبث بمحتوياتها حتى عام 1971.
وتخلل تلك الفترة تحقيقات من النيابة أوقفت عمل اللجان لشهور طويلة وكانت أبرز الوقائع التى تناولتها التحقيقات اختلاس 37 حجرا كريما من الصينية المهداة من الإمبراطورة اوجينى للخديوى إسماعيل بمناسبة افتتاح قناة السويس وجدير بالذكر الإشارة إلى أن نتيجة التحقيقات فى مايو 1966 انتهت إلى حفظ القضية لعدم معرفة الفاعل!.
سنوات أخرى مرت مرور الكرام ولا توجد كشوف للجرد ولا مسؤلية على اللجان بعد أن توفى رؤساؤها تباعاً وفى كل مرة كان رئيس اللجنة يبدأ من الصندوق الأول.. وفى نهاية 1971 بعد أن شعرت اللجنة الأخيرة بالملل من جراء العبث والبيروقراطية اللذان استمرا 9 سنوات فقدمت مذكرة إلى وزير الثقافة وقتها مفادها أن العهدة كبيرة وقد يستغرق جردها عدة سنوات أخرى وطلبوا فى نهايتها ألا يتم فحص أو وزن المجوهرات؟!.
كان طلباً غريباً من اللجنة والأغرب أن قرار الوزير كان أن تتسلم اللجنة المجوهرات من الصناديق عددياً دون وصف أو فحص أو وزن!.
وبحلول عام 1973 قامت اللجنة بعد أن انتهت من عملها وأتت على ما بالصناديق.. بإيداع مفردات الجرد على شكل عهدة كاملة داخل 40 صندوقا – لا توجد أخطاء مطبعية – نعم أربعون صندوقا من أصل 63 ولم يسأل أحد أين باقى الصناديق وعددها 23.. إلا أنه بعد عدة أشهر صدر قرار بإيداع الصناديق بالبنك المركزى المصرى وهو قرار يستحق أن نتوقف أمامه فلماذا لم تعرض المجوهرات التى نجت من الجرد متحفياً – إن صح التعبير – ولماذا كان يتم الجرد طوال 18 عاماً متصلة دون جدوى وإذا كان وزير الثقافة قد أصدر قراره بالاستلام العددى لكى ينهى وضعاً لا يريد له أحد أن ينته فلماذا لم يطبق هذا القرار؟.
كل هذه الأسئلة للأسف لن تجد لها إجابة الآن.. وللحديث بقية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة