كلما انخلع أو سقط ضرس أو ناب أو سنة من فكى تنتابنى حالة عميقة من التأمل مقرونة بالأسى، فهذا جزء من تاريخى يسقط أو يخلع خلعاً، ذلك الذى صاحبنى مشوار العمر، طحناً وقطعاً ومضغاً، وشاركنى الاستمتاع بطيب الطعام والشراب، وتلون بدخان سجائرى وسائل القهوة، وصرخت منه ألماً فى ليال لا تنسى.. ذلك الجزء العضوى الحميم، يغادر بلا عودة.. فهو مثل العمر لا يعود…
واليوم فقدت سنة أخرى، ظلت تترنح لفترة طويلة بينما أتفادى الاعتراف بهذه الحقيقة، فهى من ضمن تشكيلة أسنان الواجهة، أى تلك التى تظهر عند الحديث أو الابتسام، ولن يكون سقوطها سوى بداية لتوالى سقوط باقى الواجهة مع ما يلزم من تجعيدات وتشوهات أخرى، لذلك ظللت أعاند وأقنع نفسى أنها سوف تثبت وتستعيد مكانتها وأن ذلك الترنح ليس إلا أمراً طارئاً يرتبط بشدة انفعالى، بسبب المذابح التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى، وتغافلت عن ازدياد الترنح المصحوب بالتهاب وألم، وساعدنى فى ذلك أن آلاماً أكبر كانت تحتوينى ويهون أمامها أى ألم… ظللت صامداً، إلا أن السنة المتآمرة لم تستطع، فسقطت اليوم وحدها، دون أى ضغط أو إجبار، وحملتها بين أصابعى – كالعادة – متأملاً فى أسى..
(2)
لماذا يترنح كل شىء ويسقط وحده، دون ضغط أو إجبار؟.. هل هو فعل الزمن وحده؟.. ولكن أين فعل الإرادة؟؟.. أن منظر "السنة الساقطة" لا يغرينى بالتفلسف، ويكفى القول هنا إن ذلك هو عمرها الافتراضى، لقد أدت مهمتها على خير وجه وجاء دورها فى التقاعد، بالضبط كما سيحل دورى ذات يوم، ولكنها لم تنتقل إلى التقاعد، لأن المتقاعد يمكن أن يقوم، إنها ماتت، شطبت من سجل الحركة والنشاط بلا عودة، وأياً ما كانت إرادة المقاومة عندى فإنها كانت ستسقط، وأياً ما كان تغافلى عن الحقيقة فإنها غالبة وها هى أمامى بلا حول أو حركة.
هل يمكن أن تسقط الأمم والشعوب مثل الأسنان؟، هل يمكن أن تتخلخل وتترنح ثم تسقط؟، وهل تفيد محاولة التغافل أو التعامى عن هذا الترنح، على أمل أنه مؤقت وطارئ ؟، ولكن ما العمل إذا سقطت بالفعل؟.. وإذا ماتت، هل تعود؟؟.
(3)
ذهبت الأمثال على أن صعوبة انتزاع الشىء به "خلع الضرس"، فيقال مثلاً إ فلان لا تنازل عن الموضوع الفلانى ولا بخلع الضرس، ولكن ذلك يعنى أيضاً أنه يمكن أن يتنازل بعد خلع ضرسه!!.. ويبدو أن فلان على استعداد كامل للتنازل وأنه فقط يتمحك بموضوع خلع الضرس ربما كى يقوم خصمه بعملية الخلع مجاناً… ولكننى لم أكن أتمحك، وكنت أريد الاحتفاظ بسنتى، لكنها سقطت وحدها، دون أن أتنازل عنها، ودون أى استعداد للتنازل أصلاً… وهكذا يمكن استنتاج أن هناك نوعين من "خلع الضرس": نوع لا مناص منه، ونوع يسعى بعض الناس إليه، ولكن النتيجة فى الحالتين واحدة وهى الخسارة، سواء أكان التنازل طوعاً أم إجباراً..
والحديث عن الأسنان يستدعى على الفور فواتير أطباء الأسنان، فطبيب الأسنان يعيش على خسارتى وخسارتك لأجزاء حية من تاريخنا، فهو حيناً يوهمك بأن المسألة لا تعد تسوسا بسيطا فى ذلك التاريخ يمكن علاجه، ويقوم بآلاته الحديثة بتخريم تاريخك، وحشوه بجزء من تاريخ مصنوع، ولأنه غير أصيل يسقط، كى يعاود حشوه، وفى كل مرة تدفع مقابل تزييف تاريخك من مالك ومن وقتك ومن أعصابك، ثم فى مرحلة معينة ينصحك الطبيب بتركيب "طربوش"، وتخرج من عيادته سعيداً بذلك الطربوش الذى يحمل بعد ذكريات الماضى فى ثوب عصرى، ولكن سرعان ما يسقط الطربوش أيضاً لنفس السبب السابق، وينصحك الطبيب – كى تحافظ على تاريخك – ألا تأكل أو تشرب ساخناً أو بارداً، فالعلاج هو الفتور، أن يصبح طعامك وشرابك فاتراً، أى التوقف عند الوسط تماماً، ومع ذلك، أو رغماً عن ذلك يستمر التدهور، وتستمر محاولات الطبيب المخلصة فى إنقاذ التدهور بحلول صناعية مبتكرة، دون أن يتوقف لحظة واحدة عن إنتزاع مالك ووقتك وأعصابك.
والمشكلة أن عصب الضرس قد مات وتعفن.. ولم تعد هناك عوائق للتنازل، فما أسهل خلع الضرس، وكل محاولات الطبيب لا تعدو سوى خداع للنفس وتمويه على الحقيقة..
(4)
لقد خارت الأعصاب وانكمشت اللثة وأصبح الفك منفكاً، لابد من التسليم بواقع الحال، لقد انقضى زمن طحن اللحوم وحل زمن المهلبية، فلا بارد ولا ساخن ولا حتى فاتر، لقد تساوى المذاق وأصبح "لا مذاق".. ومن محاسن هذا الاعتراف أنه يوفر مبالغاً طائلة لأطباء لا يفعلون شيئاً سوى خداعنا وإيهامنا بقوة لم تعد موجودة، وإرادة مسوسة، وطرابيش لا تثبت فوق الرؤوس.. لن يكون أحد مضطر للادعاء بأنه لن يتنازل إلا بخلع الضرس، حيث لا يوجد ضرس ولا دياولو، وإذا أراد أحد أن يكون جاداً فعليه أن يهدد بأنه لن يتنازل إلا بخلع الرأس أو خلع الروح نفسها..
ولأنه زمن المهلبية فلن يفيد التباكى على زمن مض، فالماضى لا يعود مثل الأسنان تماماً، وعلى كل من يعنيه الأمر أن يبحث عن طاقم أسنان صناعية تتيح له بالكاد أن يلحس سائل المهلبية، دون أن يتعجب إذا أحس أن عقله أصبح مهلبية، وأن أفكاره مهلبية، وأن جماع إرادته وقراراته مهلبية ثم لماذا يتعجب، إذا كانت حياته كلها فى التحليل الأخير كانت مجرد سوساً وخلخلة واهتزازا تمهيداُ للخلع أو السقوط..
(5)
تأملت فى السنة الساقطة وقد حال لونها وغشت أطرافها بقايا من آخر لون أسود لدخان سيجارتى.. سترتاح هذه السنة أخيراً بعد نصف قرن من مكابدة عنادى وإصرارى، فكم كززت بها غضباً وانفعالا، كم عضضت بها على أصابع الندم، وكم تحملت مرارة لعابى وأحزان أيامى… أنها ترحل اليوم عن عالمى، آثرت ألا تصاحبنى إلى مقبرتى، رفضت أن تدفن معى.. لقد قررت أن تمضى وحيدة مثل صاحبها، وكأنها لا تريد أن تعيش معى زمن المهلبية بعد أن أستمتعت بزمن اللحوم والفواكه والخضروات، أننى شديد الزهو بها لإصرارها على الاستقلال رغماً عن كل محاولاتى، لقد أنفذت إرادتها وانتحرت فى ريعان شبابها تفادياً لمهانة زمن المهلبية.. والخوف كل الخوف من أن ما تبقى فى فكى من أسنان وضروس قد يتخذون كذلك قرارات مشابهة ويتركوننى أواجه وحدى هذا الزمن الرجراج الأملس… وداعاً يا سنتى العزيزة، وأشكرك على سنوات الخدمة الطويلة التى تفانيت فيها لإسعادى، واعذرينى إذا كنت عاجزاً عن أن أفعل شيئاً فى تاريخك المسوس، كان لا بد أن تسقطى.. تلك هى الحقيقة بكل الأسى والأسف…
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة