الحلقة الثانية .. من رائعة الأديب الكبير صنع الله إبراهيم : الجليد

الخميس، 30 ديسمبر 2010 11:29 م
الحلقة الثانية .. من رائعة الأديب الكبير صنع الله إبراهيم : الجليد
رسوم: أحمد خلف طايع

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ملخص ما نشر
الأحداث فى بداية السبعينيات، يبدأ شكرى رحلته ضمن الدارسين الأجانب فى موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتى، فى بيت المغتربين «الأبشجيتى» ويضطر للسكن فى غرفة مع ثلاثة آخرين، ونعرف أن البطل فى الخامسة والثلاثين، ويبدأ فى التجول بموسكو لشراء بعض الأطعمة، ونعرف أن الوقت شتاء والحرارة تحت الصفر بعشر درجات والجليد يغطى الأرض والشعارات الشيوعية فى كل مكان، ويلمح شرطيا يضع رجلا للحائط وينهال عليه ضربا، نتعرف على جلال الدينوف دارس من جمهورية سوفيتية وماريو البرازيلى وهانز الألمانى مع عدد من الطالبات من جمهوريات سوفيتية ونتعرف على زويا وبنات آخريات صديقات للدارسين، كان الاتحاد السوفيتى يرأسه بريجينيف ونعرف خبر وفاة خروشوف الرئيس السابق الذى حاول إجراء إصلاحات وتم الانقلاب عليه وإطاحته ويروى البطل لصديقته أنه حضر دفن خروشوف ويستعرض مقابر العلماء والسياسيين وسط حضور للصحفيين ورجال المخابرات.

يتنقل شكرى مع رفقاء وزملاء بين المطاعم ومحطات القطار والحافلات ويسهر فى أحد مطاعم موسكو وبين تنقلاته نتعرف منه على زملاء من دول عربية وأوروبية من اليساريين فى بلادهم الذين قدموا للدراسة والإقامة فى الاتحاد السوفيتى وبشكل غير مباشر نلمح مناقشات عن مصر والوضع فى الشرق الأوسط وعلاقة الاتحاد السوفيتى بالأحزاب الحاكمة فى سوريا أو العراق وينتهى الفصل الأول وشكرى مع عراقيين يناقشون علاقة الشيوعيين فى العراق بالبعث وعبدالكريم قاسم.

(12)
دعوت زويا وهانز إلى كونسرت فى البلشوى تعزف فيه رباعية لموتسارت. فاعتذر هانز ليعمل فى مشروعه. صعدت زويا لتغسل شعرهاوغسلت أسنانى. غادرنا الأبشجيتى سوياً ووضعت يديها فى جيبى معطفها. مضيناً إلى الكونسرفتوار فى صمت. رفضت العجوز القائمة على غرفة المعاطف البقشيش. قالت لى فى لهجة عظة إنها ما تزال تحتفظ بلافتة من أيام الثورة تقول: «هنا لا نقبل البقشيش». وأضافت: إذا كان الإنسان مضطراً للخدمة لكسب خبزه فهذا ليس مبرراً لإهانته بتقديم البقشيش له.
كان المسرح مزدحماً ولم نجد مقاعد متجاورة. جاء مقعد زويا فى الصف الثانى وأنا فى الصف الأخير بجوار فتاة كازاخية. شردت ولم أستطع التركيز وشعرت بالملل. فى الاستراحة أسرعت إلى البوفيه. طالعنى وجه فتاة سمراء حلوة. تعرفت فيها على خادمة مصرية عند أحد موظفى السفارة المصرية. وكانت برفقة شاب روسى متأنق بشكل متعمد يشى بأصوله المتواضعة. عرفتنى وبدا عليها الارتباك. التقيت زويا وتقدمنا من البوفيه. شربنا بيرة وعرضت عليها أن تأكل شيئاً فرفضت. كان القسم الثانى من الكونسرت أكثر حيوية. وقالت عندما التقينا من جديد إنها الآن سفبودنيا جينشنا، امرأة حرة، لأن فترة الإعارة من الساعة السابعة حتى العاشرة انتهت. تشاغلت باستكشاف مواعيد الحفلات القادمة فى الملصقات. وقلت إن هانز يريد حضورحفلة باخ. قالت بمرارة إنه سيذهب إلى بلده.
مشينا إلى محطة المترو وأنا أجد صعوبة فى إيجاد موضوعات للحديث. قالت شيئا لم أتبينه حول حركة القطار التى تدفعها فى اتجاهى. وأضافت مرة أخرى أنها امرأة حرة. قلت: حذار. قالت إنها أدت امتحان الشهر بصورة جيدة لأن المدرس معجب بها. وقالت إنها كانت تعتقد فى قبحها، وكانوا يسمونها فى المدرسة بالهيكل العظمى. أوشكت أن أحتضنها.
فى مدخل الأبشجيتى قالت إنها ستمر علىّ لنشرب الشاى. لقيت هانز فى الكوريدور يتطوح سكران، وقال إنه جائع. سألنى عما فعلنا فقلت كانت ليلة مملة. أجبرته على أن يصعد معى إلى الطابق الخامس بحثا عن زويا. لم نجدها وعندما نزلنا فوجئنا بها فى حجرته. لاحظت أنها أضافت طلاء أحمر إلى شفتيها. قال لها: أين كنت؟ بحثت عنك. فأشارت إلىّ قائلة: لا. هو الذى بحث عنى. بعد قليل قبلها فى شفتيها ثم نظر إليها فى ازدراء وقال لها بالألمانية كلمة تعنى أنها ساقطة. رددت الكلمة دون أن تفهم. فتحت زجاجة بيرة وأعربت عن احتجاجى لكلمته بأن رفضت إعطاءه منها. دار حولنا وقال إنه يتمنى ألا يحدث شىء بيننا، فأسرعت هى تقول: لن يحدث. قال إنه يريد أن يأخذها إلى حجرة بشار فهى خالية. لكن ليس معه مفتاحها. قلت: اذهب إلى حجرتى فليس بها أحد.




(13)
ذهبت قبل غروب يوم السبت مع فريد وبشار السورى وصديقته هيلين إلى منزل صديقة فريد الروسية على مسافة ساعة ونصف بالقطار. مضينا فى شارع قصير ضيق على جانبيه مبانى سكنية من أربعة طوابق من الطوب الأحمر تصاعدت منها أصوات الموسيقى الصاخبة. وبدت أشجار البتولا عارية وباردة من غير أوراقها. ارتقينا سلما معبأ برائحة الكرنب. ولجنا شقة من غرفة وصالة لها أرضية من اللينوليوم الرمادى، وتتوسطها مائدة ومقعد وسرير مغطى ببطانية صوفية. فوق المائدة نظارة وعلب أدوية ونسخة من جريدة برافدا. على الجدران صور لينين، وميداليات العمل الاشتراكى وشهادة بالعيد الأربعين لعضوية الحزب الشيوعى.
استقبلتنا ريرما صديقة فريد وأمها. الأولى أطول من فريد وفى بداية العشرينيات، ذات وجه طفولى. والثانية فى الحجم الروسى المعهود ذات وجه ينم عن شخصية قوية. قال لى فريد بالعربية إنها شيوعية جيدة وفقدت زوجها من 15 سنة. وتعمل فى التمريض وغيرت مرة عملها لأنها لم تستطع السكوت على سرقات الطبيبة.
كان المسكن فائق الحرارة فعلقت على ذلك. قالت الأم: فى الماضى كان الناس يتجمدون من البرد حتى الموت. وهذا لا يحدث الآن. قالت إيرما فى تحد: الآن يموتون بأسباب أخرى.
خلعت هيلين معطفها فكشفت عن ساقيها البديعتين. واختفت الأم فى المطبخ.
أدارت إيرما التليفزيون فشاهدنا فيلماً دعائياً ضد الخمر. قالت ضاحكة إن عاملاً عجوزاً اقتيد إلى قسم الشرطة بسبب إفراطه فى الشراب، وعندما سئل عن السبب فى لجوئه إلى الزجاجة قال إنها تمنحه الوقت الوحيد الذى يشعر فيه بأنه إنسان.
فتحنا زجاجات الشمبانيا والفودكا وتبادلنا الأنخاب. عرضت علينا إيرما ألبوم صورها وديوان شعر إسحق بابل الذى تعرض للتعذيب فى لوبيانكا، مبنى المخابرات السوفيتية سنة 1939، حتى اعترف على أصدقائه ثم تراجع عن اعترافاته وأعدم فى العام التالى بأمر من ستالين بتهمة التجسس، ثم أعلنت براءته فى عام 1954 بعد وفاة الديكتاتور السوفييتى. أبدت الأم تأففها من الحديث فهتفت إيرما فى سخرية: يعيش ستالين العظيم إلى الأبد، ستالين أب ومعلم الشعوب السوفييتية، ملهم ومنظم انتصار الشيوعية، قائد كل البشرية التقدمية. قالت الأم: أيام ستالين كان المكان نظيفا أما الان أينما نظرت لا تجد غير الكحول والانحلال والمخدرات، رجال يضربون زوجاتهم حتى شفا الموت ويتشاجرون فى المساكن المشتركة. بدا لى أنه صراع مستمر بين الاثنتين.
قال فريد مغيراً مجرى الحديث إننا سنشهد قريباً هزيمة أمريكا فى فيتنام. قضينا الليلة نشرب فودكا ونلعب الورق ونرقص. قلدنى فريد فى لعب الرياضة بطريقة ساخرة وضحكنا. فى الثالثة عندما سكرت رقصت مع إيرما وأنا منتصب. ورقص بشار مع صديقته. كان يتحرك بثقة وقد تهدل شعره الطويل حول رأسه.
نمنا كلنا على الأرض فى غرفة المعيشة بينما احتلت النساء غرفة النوم. وفى الصباح شعرت بصداع عنيف. أعطتنى الأم «أسبيرين» وفيتامين سى ثم نصحتنى بشرب البيرة للتخلص من أثر الخمر. قمنا بجولة حول المكان. الجو رائع وقد توقف تساقط الثلج. البلكونات مزدحمة بشتى أنواع المهملات: هياكل أسرة ودراجات وإطارات سيارات قديمة ونباتات ميتة. وفوق بعضها لا فتات «النقد الذاتى البنّاء أساس حزبنا»، «ومن النار يولد الصلب». تحدثنا عن مشاكل المسلمين والمسيحيين فى مصر. ثم عدنا إلى المنزل واستأنفنا الشراب ولعب الورق. وكنت أكثرهم مرحاً. بينما جلست الأم صامتة إلى جوارى ثم نهضت وأعدت لنا طبقاً من عيش الغراب بالثوم والزبادى.
انصرفنا قبل المغرب وبقى فريد فى غير حماس. قرأت قليلا فى القطار فى رواية آرثر كوستلر «ظلام الظهيرة»، التى حصلت عليها من هانز. أغلب الركاب يبدو عليهم الإرهاق بعد سهرة السبت. وكان هناك زوج نائم بينما زوجته تقرأ واستيقظ فجأة طالبا منها مقطبا أن تزيح ساقها التى استقرت فوق ساقه. انتقلنا إلى المترو وصعدت معنا عجوز تحمل قيثارة. لمحت رجلاً نائماً على مقعد وحيد فى طرف العربة واضعا يده وصورته على فمه. وكان هناك أيضاً ضابط عرفنا من لهجته أنه سورى مع فتاة حلوة تحمل دبلة زواج وقالت له عندما وجه إلينا التحية: بلديات لك مرة أخرى. وأخذت تتأملنا. كانت ترتدى غطاء للرأس على شكل باروكة ليمونية اللون فكرت أنه أحضرها لها من سوريا أو هلسنكى أو البريوسكا، وأنه فى بعثة تدريب أو وفد زائر. فى إحدى المحطات أعلن قائد القطار فى الميكروفون عن فتح الأبواب. فقال لها شيئا وضحك. وعندما غادرنا المترو خرجا أمامنا وانضم إليهما ضابط سورى آخر مع فتاة تبدو أقرب إلى العاهرات. وقفنا ننتظر الباص وانتحى الأربعة جانبا وأخذ الضابطان يقلدان للفتاتين الحركات العسكرية المختلفة وهما تضحكان.




(14)
فتح هانز باب حجرتى وقال: هذا هو. كانت زويا بجانبه فى رداء أزرق بزخارف صينية يصل إلى ركبتيها، فوق بنطلون أخضر اللون. قالت لى: زدراستفيتى، مرحبا. رددت عليها بصوت خرج غريبا. تطلع إلىّ هانز فى بغتة. قالت إنها لم تنم هنا بالأمس. لم أهتم. سألتنى: لماذا أنت كئيب؟ قلت: ضغط دم منخفض. قالت: يوجد دواء. ثم قالت لهانز: لماذا لا تقول لى كلمات جميلة؟ وروت نكتة جديدة: بعد عدة عقود سأل صحفى أجنبى مواطنا سوفييتيا عن بريجنيف وكاسيجين فقال إنهما اثنان من الساسة عاشا فى عصر الكاتب الروسى المتمرد سولجينيتسين. ضحكت فى تكلف. انصرفا.
فى الساعة الرابعة والنصف أصبح الجو مظلماً وكئيباً. ارتديت المعطف وخرجت حاملا الآلة الكاتبة من مقبض علبتها.. مشيت حتى المترو وركبت إلى بروسبيكت ماركس. دخلت حانوتا لإصلاح الآلات الكاتبة. سلمت الآلة لعامل متجهم قال لى أن أسأل عنها بعد شهر. اتجهت إلى مطعم خلف مسرح البلشوى. وقفت أمام المطعم فى البرد ساعة. كان حارس الباب يتحرك فى عظمة ويدخل الناس على مراحل الأولى بين البابين الزجاجيين حيث استمتعت بالدفء وبعد ذلك فتح الباب الثانى وأصبحت داخل المطعم فخلعت معطفى. طلبت نصف دجاجة تاباك. ثم توجهت إلى دار للسينما. شاهدت فيلم «عاش طائراً مغرداً» للمخرج الجيورجى. كان بطله عازف طبل فى أوركسترا ويصل دائماً متأخراً ليقرع الطبل مرتين هما كل المطلوب منه. شعرت بالرغبة فى البكاء عندما انتهى الفيلم بمصرعه فى حادث طريق أثناء التفاته ليتأمل امرأة عابرة.
اشتريت ماروجنا، آيس كريم. طرقت باب غرفة هانز. فتح لى فى جلباب النوم. كان الجلباب منتفخاً وبارزاً تحت وسطه. شككت أنه كان منتصباً. انحنى علىّ وقبلنى فى عنقى فابتعدت عنه. ارتدى ملابسه خلف الخزانة التى وضعت بعرض الغرفة. أعد قهوة. فكرت أنى لو رأيت زويا سأتجاهلها. بعد دقائق سمعتها تقرع الباب. دخلت واضعة يدها على فمها قائلة فى دلال: عندى برد. وجدتنى أبتسم لها وأقول: اشتريت ماروجنا. صفقت بيديها مهللة وجلست على مقعد. وضعت يدى على شعرها وضممت رأسها إلى صدرى. أكلنا ماروجنا بالقهوة. غادرت مقعدها وجلست فى حجر هانز. أخذ يشرح لها معنى كلمة امرأة باردة. قلت: مثلها. قال: كيف عرفت؟ على العكس. قلت: كيف عرفت؟ سألته هى: كيف عرفت؟ قال: زوجها قال لى. ضحكنا. غادرت إلى غرفتى وتركتهما سوياً.




(15)
فى الصباح طرق هانز باب غرفتى وسألنى إذا كنت رأيت البنت فقلت لا. قال إنه رأى معها علبة سجائر مصرية وإنه طردها بالأمس وظن أنها ربما جاءت تشكو لى. قلت: أنا الصدر الرحب. ضحك.
ذهبت إلى المعهد لأستعيد جواز سفرى وأعرف ماذا تم بالنسبة لرحلة ليننجراد. قال فريد إن هناك اتفاقا على وقف الحرب فى فيتنام. تساءلت: كيف سيبدو العالم الآن وقد تعودنا على أنباء الحرب كل يوم؟ قال إن إسرائيل ضمت مرتفعات الجولان السورية. حانت منى نظرة إلى الطابق الثانى فرأيت موائد وساندوتشات وبيرة وتفاحا وطماطم وأشخاصا أغرابا. قال فريد إنه مؤتمر لأعضاء الحزب الشيوعى فى الحى. كانوا يرتدون ملابس يوم الأحد والأعياد وعلى صدورهم شارات حمراء بصورة لينين. مر بجوارى أحد أساتذة المعهد. كان يحمل حقيبة يد مفتوحة ولمحت بداخلها قطعة كبيرة عارية من اللحم. ولم يكن هناك شىء غيرها.
مررت على غرفة السوريين عند عودتى إلى الأبشجيتى. كانت زويا جالسة على فراش هانز فى الجوب الأزرق القصير. سألتنى: هل ستحضر مؤتمر الحزب الشيوعى؟ إنهم يبيعون لحما وتفاحا وطماطم. ضحكت فقالت: لماذا تضحك؟. قلت: أسئلتك كثيرة. غضبت ولزمت الصمت مستغرقة فى قراءة صحيفة. اقترض منى هانز كوبين قائلاً إن فلاديمير أحضر زجاجة فودكا. دعانى للانضمام إليهم فاعتذرت.
قررت أن أغسل ملابسى. ظهر هانز بعد ساعة وعلى وجهه علامات التعاسة. قال إنه يريد سكرا ليعمل قهوة. وقال إنه جلس صامتا بينما دار بين فلاديمير وزويا حديث برجوازى متكلف.




(16)
انطلقت مع فريد وحميد إلى المعهد. قال حميد إنه يتذكر عندما جاء موسكو لأول مرة. كان يردد أنه سيكسر العالم بأسنانه. قال إنه يشعر كما لو كان لديه درج به كمية ضخمة من الطاقة ظل يسحب منها حتى فرغت. قابلت الأستاذ المشرف على برنامجى. كان فى حوالى الخمسين يرتدى سترة وبنطلونا غير متناسقى اللون. أنصت لى شارداً ثم أقر خطتى دون اهتمام. صرفت راتبى الشهرى، ضعف ما يأخذه الطلبة العاديون.
ذهبت إلى العيادة الطبية رقم ستة التى نتبعها، فى وسط المدينة. تمددت على سرير الطبيب بعد أن خلعت ملابسى ووصفت له حالتى على ورقة رسمت عليها الـ «ق ..» والخصية.. طلب منى أن أمسك «ق ..» بيدى وألبس يده قفازاً أبيض ثم أدخلها فى مؤخرتى وحرك أصبعه حتى شعرت بحرقان. قال إننى أشكو التهاب بروستاتا بسبب البرودة. كتب لى دهانا ودواء أحقن به نفسى فى الشرج وتدليك للغدة يقوم هو به. مشيت حتى مترو أرباتسكيا ثم غيرت القطار فى كييفسكايا.




(17)
عاد ماريو منفعلا من رحلة مع الطلبة البرازيليين لقرية على مبعدة ألف كيلومتر. قال إن أهلها يأكلون جيدا وأن الطماطم واللحم متوفران. ولا يملون الحديث عن ذكريات الحرب العالمية.
قررت أن أخرج وفكرت فى الذهاب إلى السفارة. كانت السماء رمادية والمطر ينهمرفعدلت عن ذلك. بعد ساعة خرجت وركبت الباص ثم المترو حتى محطة تاجانكا. اتجهت إلى مكتبة الأدب الأجنبى. استدعيت رواية «الكوميديون» لجراهام جرين. بجوارى عجوز جافة وشابة قبيحة. وضعا همهما فى كتب الفن. فى الساعة الخامسة شعرت بالنعاس وغفوت وأنا جالس عدة مرات لعدة دقائق. دخنت سيجارة فى غرفة التدخين الباردة قليلاً بسبب جهاز شفط الدخان. دخلت فتاة لتدخن وتمنيت وأنا أرقب جانباً من ساقيها بطرف عينى أن نتبادل الحديث. غادرت المكتبة إلى السينما المقابلة التى تعرض فيلما أمريكياً قديماً من إخراج فورد. لم أجد مكانا فى الحفلة التالية. مشيت فى حذر فوق الجليد حتى ميدان تاجانكا. كان الهواء محملاً برائحة المازوت المستخدم وقودا للسيارات. دخلت مقهى ووقفت عدة دقائق. ارتفع الدم إلى وجهى وأذنى وغطى البخار نظارتى. مسحته بمنديلى. قلت للكاسيرة إنى أريد مكرونة وحساء وكتليت، كفتة، وقهوة. دفعت 50 كبيكا. وقفت فى الصف. أخذت ملعقتين من حساء الشى، الكرنب. ثم أكلت المكرونة والكفتة دون شهية حقيقية وشربت القهوة. كانت هناك عجوز مزوقة بماكياج كامل، تأكل وهى تقرأ واقفة إلى مائدة. لبست قبعتى وقفازى واتجهت إلى سينما أخرى. وجدت عرضا يبدأ بعد ساعة لفيلم جاسوسية بلغارى. اشتريت بطاقة وأشعلت سيجارة. جاءت العجوز المزوقة وقطعت بطاقة. نزلت إلى التواليت فى الطابق الأرضى وعدت فجلست فى الصالة التى صفت بها مقاعد أمام منصة ضغيرة. لمحت الناس تتجه إلى الداخل فتبعتهم إلى بوفيه وأخذت زجاجة بيرة وكونفيت، حلوى. ثم عدت إلى الصالة. ظهرت فرقة عازفين بينهم امرأتان. عزفوا بغير حماس بعض مقطوعات بينها أغنية «قولى لى» وسيرينادا لشوبرت غنتها مرأة فى ثوب سهرة عارى الذراعين تلتها موسيقى جميلة لرقصة أوزبكية. كانت إحدى العازفتين تجلس بجانب وجهها ولم أتمكن من رؤيته كاملاً لكنى اشتقت إلى ذلك. فقد ذكرتنى بجمالات. تذكرت خيبة أملى الدائمة عندما أرى بروفيلا لوجه ثم ألمحه كاملاً. دق الجرس ودخلت القاعة. جلست بجوار رجل مرهق مكتئب. بدأ العرض بفيلم ملون عن روعة الحياة فى الشرق الأقصى وكيف يستخرجون المعادن، وآخر بلغارى عن مدينة حديثة أعيد بناؤها بعد الحرب، وظهر جيفكوف، زعيم الحزب الشيوعى، وهو يفتتح مصانع ومدارس، وأخيراً فيلم الجاسوسية. كان فيلماً ساذجاً عن جاسوس يحاول جمع معلومات عن جهاز الدفاع المدنى. وبدأ الفيلم بحديث لجنرال كبير عن دور الدفاع المدنى فى الحرب الذرية. كان بطله ممثلاً رديئاً وسيماً فى دور فنان أيقونات مرممة يحتال على أجانب ثم يقع فى أحابيل مراسل أجنبى يتولى تهريب المعلومات. وانتهى الفيلم فجأة دون أن أفهم السبب. وقالت امرأة خلفى إنها لم تفهم شيئا، فقال لها رفيقها وهو يتطلع حوله خجلاً: كيف؟ كل شىء واضح. وقال شاب بجوارهما: البقية فى الحلقة القادمة. وقال آخر: 60 كبيكاً، كنا اشترينا ثلاث زجاجات بيرة.
أسرعت إلى محطة المترو وركبت إلى محطة الباص. وقفت أنتظر الباص مدة طويلة فى الثلج. سمعت فى الباص أحاديث حول الجليد الذى لم يسبق من قبل. وقرأ أحد الركاب بصوت عالى من صحيفته: خلال الأيام الخمسة الماضية سقط فوق موسكو أكثر من ثلاثين مليون متراً مكعبا من الجليد وبلغ ارتفاعه فى الشوارع 63 سنتيمتراً. وجدت عند الديجورنايا رسالة من صديقى كمال. حذرنى من التفكير فى العودة إلى مصر. وذكر أن هناك اعتقالات. مررت على هانز ودعوته إلى غرفتى. أشعلت المدفأة الكهربائية المتنقلة. صنعنا الشاى. حكيت له ما قاله ماريو عن القرية. ضحك وقال: إنها تمثيلية معدة لكى تترك انطباعاً إيجابياً برفاهية الحياة فى القرى. انصرف عندما رآنى أعد الحقنة. رقدت فوق الفراش رافعا ساقى إلى أعلى حتى التقت ركبتاى بأنفى واستمتعت بالماء الساخن وهو يتسرب إلى أحشائى. ثم أمسكت بالساعة المنبهة وشحنت جرسها ثم ضبطت مؤشرها على الثامنة. رششت صدرى وتحت إبطىّ بالعطر الذى أهدته لى مادلين. التففت جيداً بالأغطية مستمتعاً برائحة العطر حولى ونمت.

(18)
عملت على الآلة الكاتبة، بعد إصلاحها، فى صحبة السيمفونية الخامسة لتشايكوفسكى. ذكرتنى موسيقاها الحزينة بماقاله هانز عن تمثال مؤلفها فى وسط المدينة وكيف أن حركة يده اليسرى الأنثوية تشى بمثليته الجنسية. مضيت إلى المطبخ لأعد كوباً من الشاى. طرقت باب غرفة السوريين وأدرت مقبضه. فوجئت بهانز واقفا يحتضن شخصاً ما. كان ضوء النافذة فى وجهى. ظننت الشخص فلاديمير وإذا به زويا، كانت مستسلمة إلى كتفه.. تحولت نحوى فاحتضنتها. قلت لها إنه كان يبحث عنها. قالت: أعرف أن هذا غير صحيح. أهدتنى قلما وقالت إنها ذاهبة لتستحم وبعدها ستذهب إلى حجرة فلاديمير الذى يرسم لها بورتريها. مضيت إلى غرفتى. بدأت أقرأ رواية زولجينتسين «عنبر السرطان». طرق فريد بابى. قال إنه سمع فى الراديو أن إسرائيل أسقطت طائرة مدنية ليبية. خرجت لابتاع لبنا وكونياك وصحيفة ليتراتورنايا جازيتا، الجريدة الأدبية. اشتريت شاياً هندياً وخبزاً وسرديناً مغربياً. قابلت هانز فى الكوريدور عند عودتى. كان فى طريقه صاعداً إلى الطابق الخامس. بعد ساعتين جاء هانز وفلاديمير إلى غرفتى ومعهما زجاجة فودكا منزلية. كان الأخير أوكرانياً فى العشرين، ممتلئاً، مهملاً فى ملابسه. قال هانز إنه سيسافر إلى ألمانيا فى الغد. وقال فلاديمير إنه لن يتزوج إلا عذراء. جاءت زويا فى بلوزة ذات خطوط طولية حمراء اللون. أحمر وجه فيلاديمير ولم يرفع عينيه عنها. حكيت لهم ما رواه زولجينتسين عن الاستنكار للأهل الذى كان يكتبه أبناء المبعدين من ليننجراد أيام ستالين، وما أعلنه لينين سنة 1917 من ضرورة إعطاء العمال المهرة أعلى المرتبات. قالت زويا إنها تعلمت بضع عبارات بالألمانية منها ايش ليب ديش، أنا أحبك. مرت بنا لحظات صمت طويلة. لم ترفع زويا عينيها عن وجه هانز. كان أنيقاً وسيماً وشعره يتدلى على جبهته. سألتنى زويا عما بى. قلت: لا شىء. الماكرة تدرك على ما أعتقد كل شىء. يا لها من روعة أن تجلس وسط ثلاث رجال، وهى تعرف أنهم يحبونها بأشكال مختلفة. صب لها فلاديمير الكأس تلو الآخر.. هل يسعى إلى إسكارها؟ نهض وأدار أسطوانة «الفالس الأخير»، التى تحبها هى لأنه يمكن الرقص معها. انضم إلينا حميد ثم تاليا ورقصا سويا، أطفأت نور الحجرة وأشعلت مصباح المكتب، جلست زويا فوق الشوفنيرة الخشبية تتمايل منتظرة أن يدعوها أحدنا للرقص، بدا السكر على هانز، أضفت إلى المائدة زجاجة فودكا بريتسوفايا، أتطلع إليها ثم بسرعة إلى هانز لأرى هل ينظر إلى وبسرعة لفلاديمير لأرى هل يتطلع إليها. انحنت زويا على هانز وقبلته فى فمه. قام وجذبها من ذراعها وهى تتمنع فى دلال، صحبته حتى باب الغرفة، تهامسا، ثم عادت تجلس تكمل السيجارة. راقبتها بركن عينى تسحب صدريتها وترتديها فى هدوء. ثم وقفت وقالت: سباكوينى نوتش، ليلة هادئة. رمقتنى لحظة ثم غادرت الغرفة وفى أعقابها هانز. ظللنا جالسين بعض الوقت وأنا أتطلع إلى النافذة. ثم انصرفوا جميعاً وبدأت أعد الحقنة.





(19)
نظفت الحجرة وجاء هانز، قال إن فريد وحامد قضيا الليلة فى الخارج وإن زويا باتت معه وما زالت فى حجرته وإنها تلقت أمس خطابا من زوجها يفيد أنه مريض بالتهاب رئوى وستسافر إليه. دار فى الحجرة دون هدف ثم قال: لقد تركتها أمس مع فلاديمير ثلاث ساعات ثم أخذتها إلى الفراش. صمت لحظة ثم قال: كان يجب أن تراهما وهى تودعه وقد التصق خداهما بقوة. ذهب إلى المرحاض بينما سبقته إلى غرفته. وجدتها مكومة أسفل المكتب. كانت ترتدى البلوزة الزرقاء الأنيقة التى تبدو كقميص عسكرى. قالت: كيف رأيتنى؟ قلت: بقلبى. قالت: سأرى إذا كان هانز سيشعر بوجودى. قلت إن لديه مشاغل كثيرة. جاء هو وسأل: أين هى؟ ثم رآها. أشارت إلى صورة رسمتها لنفسها وعلقتها على الجدار فوق فراشه. كتبت فى أعلاها: دوبرى أوترا، صباح طيب، وأسفلها: سباكوينى نوتش. قالت إنها سترسم لى واحدة أيضاً. قلت: لو تطلعت إلى الصورة قبل النوم لن يكون نوماً هادئاً. شعرت بنفور من طريقتها الطفولية والشاعرية فى الكلام. كانت قد أحضرت علبة مربى وذهبت تبحث عن خبز وزبد. كانت العلبة جديدة وأنيقة من إنتاج رومانيا. فكرت إنها قد تكون هدية لها من فلاديمير. سألنى: هل تظن أنها أعطته شيئاً؟ قلت: لا أعتقد. أشار إلى حركات فلاديمير الأنثوية. عادت بالخبز والزبد وأفطرنا. سألتها عن مصدر علبة المربى ففكرت طويلاً ثم ذكرت اسم حانوت. اعتقدت أنها تكذب. قرأت لنا قصة قصيرة كتبتها بالأمس. أسطورة عن شمسين وزهور وإحدى الشمسين دبت إليها البرودة. سألت هانز إذا كان سيرافقها حتى القطار. قال إنه متعب وهى تستطيع أن تجد طريقها بنفسها. استعدت للانصراف وقبلتنى فى خدى قائلة إنها ستمر على عند عودتها. ثم قالت: نى سكوتشايم بيز منيا، لا تستوحشوا من غيرى.
أخذت الحقنة وشعرت برغبة حسية. أغلقت باب الحجرة بالفتاح ونمت على وجهى فوق وسادة. تصورت فخذى فيرا اليهودية فى جوبتها القصيرة. حككت جسدى حتى سرت فيه رعشة اللذة. قرأت قليلاً وإذا بى أغفو. استيقظت بعد مدة. فكرت أن أتصل بأولجا وأدعوها للعشاء. كنت قد تعرفت بها وبصديقتين لها فى حانوت لبيع الكتب بالقاهرة. وكن يعملن بالسفارة السوفيتية. طويلة رشيقة مليحة الوجه. لم أتحمس للفكرة. ربما بسبب المرة التى شعرت فيها برائحة فمها، أو لرغبتها الملحة فى الزواج. تخيلت مجرى الحديث معها وعندما سيصيبنى الملل وأفكر فى التخلص منها.

(20)
أدخل الطبيب يده فى مؤخرتى وبدأ فى تدليكى. كان أسمر البشرة ويبدو من إحدى الأقليات غير الروسية. قال بلهجة عدوانية تعجبت لها إنه يحتاج إلى إطار لسيارته الفولكس فاجن وسألنى إذا كان فى إمكانى توفير واحد له. قلت: كيف؟ قال: من سفارة بلدك. قلت إنى لا أعرف أحداً بها. انتهى من تدليكى، فقال بلهجة غاضبة: هاأنا أضع يدى فى مؤخرتك دون أن تحضر لى ولو زجاجة ويسكى. تجاهلت الأمر.

(21)
اجتمعنا مع زويا فى غرفة السوريين بعد عودتها من زيارة زوجها. أنا وحميد وفريد وفلاديمير. وصفت لنا كيف وجدت فتاة المطبخ الساذجة مدلهة فى حبه ولا تكف عن ملاحقته. وكيف سكر المجندون ذات ليلة وفتحوا خزانة الضابط وأخذوا ثلاث زجاجات فودكا وأبدلوا جزءا منها بالماء. وقالت إنها تعرفت على زوجها عندما كانت فى تنظيم الطلائع وتضع حول رقبتها شالاً أحمر. وإنها فى البداية لم تحبه لكن تزوجته لتتحرر من سيطرة أمها. وإن الليلة الأولى معه كانت محبطة. سألت: أهناك أخبار من هانز؟ متى سيعود؟ قالت وهى تنظر إلىّ: أعرف أن علاقتى به ستنتهى بشكل ما. وقالت إنها لا تحب الأشخاص المتواضعين الخجولين.
قال فلاديمير إن مجلة سوفتسكايا كولتورا، الثقافة السوفييتية،المجلة الجديدة للجنة المركزية للحزب، انتقدت فلاديمير فيسوتسكى، وهو نجم سينما شاب وممثل مسرحى حقق شعبية واسعة بين الشباب بصوته الأجش وأغانيه المعارضة التى تسخر من النظام السوفييتى. تلى إحدى أغانيه: بينما كنت أريق دمى من أجل البلد والوطن، كان يشتعل شىء بداخلى، كنت أنزف من أجل سيروشكا فومين، الذى ظل جالساً فى الخلف ولم يخاطر من مخبئه. أخيراً انتهت الحرب، وانتهى العبء الثقيل الذى حملناه على أكتافنا، وقابلت سيوشكا فومين. وفوق صدره شارة بطل الاتحاد السوفييتى.
قالت زويا إن بعض أغانيه تتناول موضوع معسكرات العمل فى سيبيريا، حيث قضى بعض الوقت قبل عام 1955. ومنها أغنية تقول: قضى علينا نحن الاثنان، هو بتهمة الاحتيال، أنا بحب كسنيا. فقد أمسكت بنا التشايكا، (البوليس السرى). وأنا الآن مع بتروف سجناء، محاطين بلصوص الخطوط الحديدية والمنازل.

(22)
أعطانى صحفى مصرى كل ما لديه من صحف مصرية بسبب انتهاء عمله فى موسكو. حملتها فى سيارتى تاكسى إلى المعهد. صعدت بها إلى غرفتى عدة مرات. رأتنى القومندانة ففغرت فمها دهشة لكنها لم تعقب بشىء. وضعت الصحف على جانب فكونت كوماً عالياً. فكرت فى هول ما أنا مقدم عليه. استخرجت صحف الأيام الستة من يونيو 1967 وعكفت على قراءتها. أمسكت بالمقص وقصصت بعض محتوياتها. أسقطت بضع نقاط من زجاجة الصمغ فوق ورقة بيضاء. ألصقت القصاصات وكتبت التاريخ فى أعلى الورقة. ثم تناولت صحيفة أخرى.

(23)
وضعت جانباً رواية الأمريكى ثورنتون وايلدر عن يوليوس قيصر. تناولتها من جديد وأعدت قراءة الفقرة التى لفتت نظرى: «الشعراء هم الذين قالوا للناس إننا نتقدم إلى الأمام إلى عصر ذهبى بينما يتحملون معاناتهم على أمل أن يأتى عالم أسعد يبتهج له نسلهم. أصبح من المؤكد تماماً أنه لن يكون هناك عصر ذهبى ولن يمكن أبدا خلق حكومة تعطى لكل إنسان ما يسعده لأن النزاع يكمن فى قلب العالم وحاضر فى كل أجزائه. من المؤكد أن كل إنسان يكره من وضعوا فوقه، وأن الناس سيتنازلون عن أملاكهم بنفس السهولة التى تسمح بها الأسود بانتزاع الطعام من بين أسنانها». قرأت فقرة أخرى: «يجب علينا نحن الحكام أن نكون فى آن واحد الأب الذى حماهم من الأشرار فى طفولتهم والقس الذى حماهم من الأرواح الشريرة».

(24)
قال ماريو إنه سمع فى راديو صوت أمريكا أن ثمانية من الفدائيين الفلسطينيين اقتحموا مقر السفارة السعودية فى الخرطوم وأعدموا ثلاثة من الدبلوماسيين الأجانب. وقال إنه سيبيت فى الخارج فتلفنت لمادلين. جاءت بعد الظهر. أرادت أن تتبول فعرضت عليها الصعود إلى طابق البنات. رفضت. التجأت إلى ركن الغرفة واستخدمت زجاجة الحليب. تمددت على الفراش أقرأ مستريحاً. فكرت أن الزواج من هذه النقطة مريح. جاءت ونامت إلى جوارى. عانقتها لكنها تأخرت فى الاستجابة ففقدت الرغبة من التعب. نمنا حتى الصباح.
لم تغادر مادلين الحجرة إلا بعد أن ضغطت عليها لتصعد إلى حمام الطابق الخامس. خرجت لشراء حاجيات وزجاجة نبيذ. وأنا أعد الغداء جاء عدنان. فى منتصف العشرينيات بوجه وسيم وشعر ناعم. دعوته لأن يأكل معنا فلم يعترض. جلس يتحدث عن نفسه ورسوماته. سخر من أن زجاجة النبيذ من نوع خفيف واقترح أن يذهب لشراء واحدة أقوى. فعل وجلب معه مجموعة من الأسطوانات الموسيقية. كانت بينها أغان مصرية حديثة. وضع واحدة تدعى «الطشت قال لى قومى استحمى». زعم أنها من الفلكلور المصرى فقلت إنها لا فلكلور ولا حاجة وإنما إسفاف. استبدلها بأغنية عبدالوهاب «آه منك يا جارحنى». أتبعها بأغنية لفريد الأطرش ثم شارل أزنافور. هل هو البرنامج الموسيقى الذى يتبعه عندما يدعو فتاة إلى غرفته؟ أراد أن يضع واحدة أخرى فقلت يكفى لأن الفتاة ستمضى بعد قليل وأنا أريد الانفراد بها. لم يعبأ بى وأدار أغانى سانجام. استلقيت فوق الفراش. جمع أسطواناته وعزم على الانصراف. قالت له فى خجل أن يبقى بعض الوقت. انصرف بعد قليل. فانفجرت فيها غاضبا. ثم نمنا وجئنا سويا دون أن نعبأ بالحذر من قضية الحمل. قالت بعدها: أحب أنك كلما عنفتنى قبلتنى. حاولت أن أعرف جذر ما لديها من مازوكية. قالت إنها وهى مراهقة كانت تستمنى بعد سماع قصص تعذيب القديسات. وكانت تحصل على درجات ممتازة فى مدرسة الراهبات لكنها دائما ترتكب من المخالفات ما يستدعى عقابها بالركوع ساعة. سألتها عن المرة الأولى التى استمنت فيها، فقالت: كنت جالسة على مقعد الفصل شاردة وفكرت أن المدرسة ستعنفنى بسبب ذلك وعند فكرة العقاب تهيجت وأخذت أحك نفسى بالمقعد. رفضت الصعود لحمام البنات وتبولت فى زجاجة الحليب ووضعت ورقة من أوراق الصحف التى كنت أعمل فيها تحت الزجاجة. صرخت وانفجرت فيها. شعرت بعدها بدوار وألم فوق عينى ثم فى ساقى. نمنا مرة أخرى. فى المرتين لم أحاول السيطرة على نفسى وانتظارها. ولم تكن فى حاجة إلى ذلك.

(25)
جاءتنى منها فى اليوم التالى بطاقة بريدية قالت فيها بالإنجليزية: «عند خروجى من الأبشجيتى أمس التقيت بعدنان وسألنى لماذا لم ترافقنى حتى الباص؟ أردت أن أقول له وماشأنك انت؟ لكنى لم أفعل لأنى مؤدبة. صح! الآن فهمت لماذا أثار غضبك».
راقبنى ماريو وأنا أعمل فى الصحف. سألنى عما أفعل. قلت له إنى أتتبع الأحداث المهمة فى السنوات الأخيرة. وإن لدى فكرة ضبابية عن مشروع ضخم ينتج عن ذلك. أبدى تعجبه. أدرت أسطوانة «النيل نجاشى» لمحمد عبدالوهاب وجلست أمام الطاولة أفكر. أنا قرأ كل يوم صحف شهر كامل ثم أرتاح فى اليوم التالى. إذن أنا أقرأ فى الشهر صحف سنة. معنى هذا أنى فى حاجة إلى ستة شهور.
فى آخر الليل جمعت بقايا الصحف المقصوصة التى رميتها جانبا. حملتها وخرجت إلى الكوريدور. وضعتها فى سلة المهملات بالمطبخ. عدت إلى الحجرة وأشعلت سيجارة. فتحت الكوة العلوية الصغيرة لأتخلص من دخانها.

(26)
نهضت مبكرا. كانت أشعة الشمس تتسلل إلى الحجرة. تناولت سكينا وخطوت فوق الأرضية الخشبية حتى النافذة. مزقت الورق الملصق بين مصراعيها والذى يوضع فى الشتاء للحماية من الهواء القارص. جذبت المزلاج وفتحت النافذة فدخل الهواءالنقى المنعش. تأملت الرافعة المعمارية وهى تحمل قطع الطوب الأحمر ليرصها العمال جنباً إلى جنب فى مشروع المبنى المجاور. تناولت قطعة من القماش وبللتها بالماء ومسحت آثار التصاق الورق على النافذة. فاليوم هو عطلة عاملة التنظيف. فى الماضى كان الطلبة هم الذين يتولون التنظيف لكن المصريين احتجوا ورفضوا ذلك. جلست إلى الطاولة وتناولت صحيفة. بعد قليل جمعت بقايا الصحف المقصوصة وحملتها إلى خارج الحجرة.
ذهبت مع حميد إلى المعهد. هناك لسعة برد خفيفة رائعة تحت شمس دافئة. استنشقت الهواء النقى فى لهفة. حدثنى عن رواية ضد الصهيونية بعنوان «أرض الميعاد» لمؤلف سوفييتى شاب. البطل شاب رومانى من أصل يهودى يهاجر إلى فلسطين عند صعود النازية وسيطرة هتلر، لم تكن دوافعه دينية أو أيديولوجية. ليس غير النجاة بحياته. يقول له أحد الصهاينة: قال هرتزل مرة لو لم يكن هتلر موجوداً لاخترعناه نحن. لولا النازية ونظريتها العنصرية ما استطاعت الأغلبية الساحقة من إخواننا وأخواتنا معرفة الطريق إلى أرض الميعاد. وفى هذه الأرض يكتشف المهاجر حقائق مرعبة ويتركها إلى غير عودة.
كان الجليد قد بدأ فى الذوبان وألقت سلطات المدينة بكيماويات مذيبة فوقه. قال حميد إن درجة الحرارة ارتفعت إلى 7 أو 8 درجات فوق الصفر. وليس معنى ذلك أن الربيع وصل فقد يكون إنذارا كاذبا. لاحظت أن ملابس المارة قد لوثها الطين والماء. وتساقطت قطراته من حواف الأسقف وأنابيب الصرف. ورأيت عمالا فى سترات سوداء يكوّمون تلالا من الجليد بالمجاريف الحديدية. وامتلأت الطريق بالأوحال والقاذورات التى كانت مدفونة تحت الجليد. وتغطت الأرائك بألواح خشبية تمنع جلوس أحد فوقها. وقال حميد إن ذلك يعنى أنه يتم الآن كسح الجليد من فوق الأسطح. ويموت كثيرون عندما تسقط عليهم قطعه. التقينا فريد. قال إن اليوم هو السابع عشر للغارات الإسرائيلية المتواصلة على بلدة الحارة السورية. وإن السادات يبنى معتقلات لـ1300 شخص فى الواحات. وقال إن الشيوعيين فى سوريا والعراق يجمعون تبرعات لمن فصلوا من الاتحاد الاشتراكى فى مصر.




(27)
تجمع الرجال حول باعة الورد. وفى المترو حمل كل رجل باقة منه. والتفت مجموعة من الشباب حول عازف قيثارة. وكانت الفتيات والنساء متأنقات وأخريات متجهمات. إنه يوم المرأة العالمى.
ذهبت إلى كافيه إيليت للقاء عبدالحكيم. مصرى فى الأربعين من عمره. ممتلئ وأصلع الرأس. ودود وخجول. كان من أوائل الطلاب الذين أرسلهم عبدالناصر للدراسة فى الاتحاد السوفييتى فاستقر به وتزوج أوكرانية ثم عمل فى القسم العربى بالإذاعة الروسية.
كان المقهى مزدحما ووجدنا مائدة بصعوبة. لمحت فتاتين تبحثان عن مكان. سألتا إذا كان من الممكن الانضمام إلينا. وافقنا بالطبع. تعارفنا. كانتا فى أوائل العشرينيات. إحداهما شقراء بوجه طفولى وتدعى ناتاشا، طالبة بالصف الرابع فى معهد التغذية، ترتدى بلوزة حمراء وبنطلونا أسود. الثانية تدعى لامارا. نحيلة ذات شعر مجعد مرسل على الطريقة الغجرية، ترتدى صدرية وجوبة. كان وجهها حسيا للغاية ولم تفصح عن مهنتها. قالت إن يوم المرأة العالمى هو اليوم الوحيد فى السنة الذى يقوم فيه الرجال بكل مهام المرأة. قال عبدالحكيم إن زوجته مسافرة وعرض أن ننتقل إلى شقته. كانت قريبة من المقهى فى مبنى حديث، جيدة التدفئة ومكونة من غرفة نوم وصالة بها أريكتان متقابلتان. جلست لامارا بجوارى فوق واحدة وجلست ناتاشا إلى جوار عبدالحكيم فوق الأريكة الأخرى. أحضر زجاجة ويسكى وبعض المقبلات. اعتذرت ناتاشا عن الشراب لأنها مريضة بالقلب. ومع ذلك دخنت بشراهة. قالت إنها تزوجت فى الصف الأول من المعهد وبعد سنة طلقت وهى تعمل فى حانوت للعب الأطفال إلى أن تحصل على تصريح بالإقامة فى موسكو. ازرق وجهها بعد قليل فاستلقت فوق الأريكة ووضعت رأسها فوق فخذ عبدالحكيم قائلة إنها تتعب بسرعة وتحتاج إلى الراحة كل فترة. أمسك عبدالحكيم بيدها فى راحته. احتست لامارا الويسكى. قالت إن لديها طفلة وإنها تركتها مع أمها فى تفليس، عاصمة جورجيا. قالت ناتاشا إنها لا تجد حافزا للوجود. أرتنى كفها وأشارت إلى قصر خط الحياة. روت لامارا نكتة عن بريجنيف قلدت طريقته فى الخطاب: بعد سنتين سيكون لكل فرد شقة وبعد خمسة سيارة وبعد سبعة هليكوبتر. شردت فى تأمل وجهها وشفتيها الحسيتين. قلت إن السادات وعد بأن يضع فى يد كل مصرى ألكترونة. ضحكت لامارا ووضعت يدها على ساقى. شعرت أن خيطا ما امتد بينى وبينها. تبادلنا القبلات وطلبت منها أن تستحم ففعلت دون غضاضة. بسطت بطانية فوق الأرض. أطفأت النور واستلقينا. وظل عبدالحكيم ممسكا بيد ناتاشا فوق الأريكة. أزعجتنى عظام حوضها البارزة. ووجدتها واسعة. قلبتها على وجهها. انتهيت وحدى. أثناء الليل شعرت بها تبسط الغطاء فوقى. فى الصباح بدت حزينة ورأيت عبدالحكيم وناتاشا مستغرقين فى النوم فوق الأريكة بملابسهما وهو مازال ممسكا بيدها.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة