تعتبر الجاسوسية إحدى أهم أدوات العلاقات الدولية، شئنا أم أبينا، ولا تكاد توجد دولة فى العالم، لا تقوم بالتجسس على الدول الأخرى، أيا كانت طبيعة ومستوى علاقتها بها، وإذا كان التجسس مبرراً فى حالة العلاقات العدائية، وفى أوقات الحروب والأزمات، فإنه غير مبرر، أو على الأقل مستغرب، فى حالة التفاعلات التعاونية، وفى أوقات السلم والاستقرار.
وبنظرة سريعة على الشهور الخمسة الأخيرة، فقط، لتأكدت لنا الحقيقة السابقة، ففى مارس، أعلنت إيران عن تفكيك شبكة تجسس كانت تخطط لشن حرب إلكترونية ضد إيران، بدعم من الولايات المتحدة، وفى مايو، تم الإعلان عن اكتشاف شبكة تجسس إيرانية فى الكويت، وفى يونيو، أعلنت السلطات الأمريكية اعتقال عشرة أشخاص بزعم تنفيذ مهام سرية طويلة الأمد لصالح روسيا، وفى سبتمبر، أعلنت السلطات التركية عن الكشف عن شبكة تجسس عسكرية تقف وراءها الاستخبارات الإسرائيلية، تبتز موظفين بارزين فى الدولة والجيش التركى.
وفى شهر أكتوبر فقط تم الإعلان عن خمس عمليات تجسس فى عدة دول، فقد أعلنت لجنة الإعلام والاتصالات فى البرلمان اللبنانى أن إسرائيل تقيم 21 مركز تنصت وتجسس على الحدود مع لبنان، كما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية، أنه تم القبض على شبكة تجسس تضم خمسة إيرانيين يعملون لحساب الولايات المتحدة وبريطانيا، وأعلنت جمهورية جورجيا اعتقال 13 جاسوسا منهم 4 مواطنين روس، وأصدرت محكمة الجنايات الموريتانية، حكما بالسجن ضد مواطن جزائرى بتهمة التخابر مع المخابرات الإيطالية، لمتابعة نشاط المسلمين الغربيين الذين يصلون يدرسون العلوم الشرعية فى موريتانيا.
وفى نوفمبر، أعلنت السلطات السويدية، الكشف عن أنشطة استخباراتية غير مشروعة قامت بها السفارة الأمريكية فى البلاد، وفى الشهر نفسه أعلنت السلطات النرويجية، الكشف عن فريق تجسس نرويجى عمل لسنوات طويلة لحساب السفارة الأمريكية فى العاصمة أوسلو ولصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، منذ عشر سنوات.
وفى ديسمبر أعلنت السلطات المصرية، الكشف عن شبكة تجسس إسرائيلية، تضم إسرائيليين ومصرى، تعمل لصالح إسرائيل، كما تبادلت الحكومتان البريطانية والروسية طرد الدبلوماسيين بتهمة التجسس، والدائرة تتسع لتضم عشرات الدول، وعشرات الشبكات التى يتم الكشف عنها، وفى الكثير منها ترد أسماء دبلوماسيين متورطين فى مثل هذه العمليات.
فظاهرة إساءة استعمال الحصانات والامتيازات الدبلوماسية، وعدم احترام قوانين دولة الاستقبال أصبحت تلعب دورا مهما فى رسم إطار هذه الحصانات وتلك الامتيازات، خاصة بعد ازدياد عدد الدول وازدياد عدد المبعوثين الدبلوماسيين، وقد زاد حرص الدول على أمنها الوطنى وتوسيع أبعاده، من لجوء معظم دول العالم، إن لم يكن جميعها، إلى الجاسوسية بدرجات متفاوتة وغالبيتها تستخدم بعثاتها الدبلوماسية فى ممارسة أنشطة التجسس تحت الغطاء الدبلوماسى.
وإذا كان الخط الفاصل بين الدبلوماسية والجاسوسية غير واضح فى كثير من الأحيان، فإنه موجود ولا يمكن تجاهله، وإذا كان الكثيرون من المفكرين والمحللين يتحدثون عن "شعرة معاوية"، التى شكلت أحد مبادئ العلاقات الدبلوماسية، فإن هذه الشعرة ذاتها يمكن القول إنها هى التى تفصل بين الدبلوماسية والجاسوسية، تؤكد ذلك شهادات العشرات، بل المئات، من الدبلوماسيين والجواسيس السابقين الذين يؤكدون أن هذا الخط ـ أو تلك الشعرةـ موجود فعلاً، وإن الجميع ممن يقفون على جانبيه يعلمون أن العبور إلى الطرف الآخر وارد فى أى وقت، وأنه إذا كانت مهمة الدبلوماسى هى العثور على الأشياء والمعلومات، فإن الدبلوماسيين، بشكل عام، يعملون فوق السطح فى دائرة الضوء، بينما يعمل الجواسيس تحت الأرض، وإذا كان الجواسيس يسعون إلى الحصول على معلومات تحاول الحكومات الأجنبية إخفاءها، فإن الدبلوماسيين يقدمون هذه المعلومات لعملاء الاستخبارات، عندما تصل إليهم بشكل أو بآخر، لكنهم لا يسعون عمدًا إلى الحصول عليها، ولكن المؤكد كذلك أن الدبلوماسيين فى مختلف السفارات يعلمون من هم الجواسيس، داخل السفارة، سواء لهم أو عليهم.
والأمر المؤكد أيضا أن معظم دول العالم تتفهم، بل وتدرك تماماً أن الكثيرين من العاملين فى هذه السفارات الأجنبية، تضاف إلى مهامهم وظائف تسمى أحياناً أمنية أو استخباراتية، أو جمع معلومات، إلا أن الكشف عن هذه القضايا وإثارتها، يتوقف على طبيعة العلاقات القائمة بين الدول المعنية، أو بوصفها ردود فعل على مواقف أو سياسات، وتوجهات لهذه الدولة أو غيرها، كما أن اللجوء إلى التصعيد يتم فى كثير من الحالات كأداة من أدوات الضغط التى تستخدمها الدولة عند توتر علاقاتها أو عند رغبتها فى الحصول على مكاسب أو تنازلات معينة من الدولة التى تورط مواطنوها فى عمليات التجسس.
يؤكد ذلك توقيت الكشف عن مثل هذه العمليات، ففى كثير من الحالات لا يتم الإعلان عنها إلا بعد مرور شهور وأحياناً سنوات، وحتى فى حالة الإعلان عنها، وإثارتها إعلاميا، يتم تهدئة الموقف وتسويتها سراً، إذا كانت الدولة قد حققت أهدافها، من هذا الإعلان.
إن الخيانة والتجسس عمل مخالف لكل الشرائع السماوية ولقانون الحياة الحرة الكريمة، وجرائم الخيانة والتجسس والتعاون مع أجهزة الأمن المعادية من أخطر الجرائم التى يقوم بها الفرد ضد وطنه، لأنها تقطع رابطة الولاء المقدسة التى تربطه بهذا الوطن حين يقوم بمثل هذه الأعمال، ولكن الغريب، فى زمن العجائب، أن العديد من الجواسيس، تتم معاملتهم على أنهم أبطال، ورموز وطنية، وتُخلد ذكراهم فى عشرات الأعمال الفكرية والأدبية والإعلامية.
وصدق القائل "كل يغنى على ليلاه"، فمن نعتبرهم مجرمين، يعتبرهم آخرون أبطالاً، ولم لا وقد غابت معايير الشرف والأمانة والبطولة، عن الكثيرين، ولكن لا نملك أن نقول:
إنها السياسة.. !!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة