معصوم مرزوق

القوة الناعمة.. والقوة "اللى مش كده"!!

الأحد، 26 ديسمبر 2010 03:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
على هامش أحداث كثيرة يثور الجدل ويحتدم النقاش حول ما يسمى "القوة الناعمــــة" Soft Power لمصر، ويدلى كل بدلوه، فمن قائل بأنها قوة لا يغلبها غلاب، ومن قائل بأنها قوة التدخل السريع، ثم هناك من يقول إنها قوة الأمن المركزى"..

ورغم فطحلة المتداخلين فى الجدال، ورغم عبقريتهم بلا جدال، فمن الواضح أن المتابعين من غلابة الشعب المعدمين لم يفهموا بالضبط "إيه حكاية القوة الناعمة هذه؟"، وهذا القطاع الشعبى ذو الأغلبية الساحقة يفهم القوة بمعنى البطش والسطوة والخشونة، بمعنى القدرة على حسم الخلاف بالقبضة أو بالسنجة أو المطاوى، أما النعومة فلا يراها إلا على النساء، وبعض الرجال "اللى لا مؤاخذة!"…

فما هى حكاية القوة الناعمة التى كسر بها المتحذلقون رؤوسنا؟، يقول بعضهم فى تعريفها بأنها تلك القوة التى تحملها الثقافة والتاريخ والدور الحضارى لأمة من الأمم، ويضربون مثلاً على ذلك بطه حسين وأم كلثوم وعادل إمام وأحمد زويل، فهذه هى الريادة والقيادة الفكرية والمزاج الثقافى الذى يتسلل إلى وجدان كل عربى فيجعله أسيراً مجذوباً للسحر المصرى، وهكذا يمشون خلف مصر معصوبى الأعين والآذان، فلا يرون إلا ما تراه مصر ولا يسمعون إلا ما يقوله "صوت العرب" فى الإذاعة المصرية..

وربما بعض هذا الكلام جيد وزين ولا غبار عليه، فلا شك فى أن "أم كلثوم" نجحت فى توحيد المذاق العربى خلف صوتها الفريد، وأن طه حسين كان معلماً لأجيال من العرب، وأن عادل إمام أضحك الأمة على نفسها، وأن أحمد زويل عالم أمريكى أصله مصرى.. ولكن أين هى "القوة" التى يتحدثون عنها، فقد ماتت أم كلثوم، وغادرنا طه حسين؟، ثم ما ى علاقة "القوة" بضحكات مسرح عادل إمام، وما الذى يمثله بالفعل أحمد زويل؟..
من المؤكد أن الكثيرين من علماء "القوة الناعمة" سوف يردون بخشونة، ويرفضون التشكيك فى نظريتهم الخالدة، وسوف يرسلون قنابل الثرثرة حول تحرير إفريقيا وتوحيد العرب وتأميم قناة السويس وصد العدوان الثلاثى وبناء السد العالى وتأسيس حركة عدم الانحياز.. إلخ إلخ..

وبعض تلك العناوين صحيحة وتعكس بالفعل قدراً من القوة، ولكنها ليست ناعمة، فلم يقف المصريون فى مواجهة العدوان الثلاثى يرسلون القبلات من الشرفات لجنود المظلات البريطانيين، ولم يتم تأميم قناة السويس بالأشعار والأغنيات، ولم يرتفع حجر فى السد العالى على سطور كتابات طه حسين، ولم تتأسس حركة عدم الانحياز على أنغام الفرقة الماسية خلف كوكب الشرق، ففى كل هذه الأمثلة البسيطة كانت القوة بمعناها الذى يفهمه أهل البلد البسطاء موجودة، ثم جاء بعد ذلك التعبير الناعم عنها مثلاً فى أغنية عبد الحليم "قولنا هانبنى وآدى إحنا بنينا السد العالى"، أى أن الانعكاس الناعم كان تالياً لفعل القوة "قلنا وبنينا"، كان تعبيراً عن واقع فرضته السواعد المصرية القوية على الأرض، وليس مجرد أوهام أو أحلام يقظة…

قد يمكن تعريف القوة الناعمة بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد من الآخرين من خلال الإقناع والجذب"، وهى فى ذلك تختلف عن القوة الخشنة Hard Power فى أن الأخيرة تعتمد على الضغط والإرغام، وكان أول من تناول هذا المصطلح الكاتب الأمريكى جوزيف ناى فى كتابة الشهير (القوة الناعمة: وسائل النجاح فى سياسات العالم) الصادر عام 2004، حيث ذهب الكاتب إلى أن القوة الناعمة هى القيم التى تتحلى بها الدولة وما تملكه من ثقافة وسياسات ومؤسسات، والدرجة التى يمكن بها أن تكون هذه الأدوات قادرة على جذب الدول الأخرى.

واقع الأمر أن من تحدثوا عن القوة الناعمة لم يقصروها فقط على العوامل الثقافية أو حتى الاقتصادية، بل اعتبروا أن القوة العسكرية تساهم أيضاً فى هذه القوة، فعلى سبيل المثال كانت سمعة "موشيه دايان" والأساطير التى نسجتها الدعاية الإسرائيلية حول عبقريته العسكرية نوعاً من "القوة الناعمة" التى ألقت فى روع العرب أنه لا يمكن أن يهزم، حتى أثبتت "القوة الخشنة" فى حرب العبور فجاجة هذه القوة الناعمة فى مواجهة الاختبار الحقيقى لقوة النار والدماء.

كما أن القوة الناعمة بتعريفها الصحيح لا تعد دائماً أسلوباً ناجعاً فى مواجهة كل التحديات، ومن ذلك مثلاً التحدى الصهيونى أو محنة التخلف، فتلك أمثلة لتحديات تتطلب توظيف عناصر القوة الشاملة مثل حجم السكان والقدرة العسكرية والموارد الاقتصادية.. إلخ، ومن ناحية أخرى فإن تلك القوة الشاملة وحدها قد تعجز عن تحقيق أهداف الدولة، ولننظر مثلاً إلى عجز القوة الأمريكية فى أوضاع مثل العراق وأفغانستان، وقبلهما كانت فيتنام مثلاً واضحاً لقصور نظرية القوة الشاملة. ولقياس تأثير تلك "القوة الناعمة"، لا يكفى الحديث والطنطنة بوجودها، وإنما يجب اتباع المنهج العلمى فى استطلاع الرأى العام والاستقصاء البيانى الإحصائى لدى الجمهور المستهدف بها، ومن السذاجة أن تقاس تلك القوة بالأغانى والأناشيد وإطراء الذات أو خداعها، أو استدعاء القوة بأثر رجعى مثل التغنى بجيش صلاح الدين الأيوبى، والذى كان فى التحليل الأخير قوة خشنة بكل ما يعنيه ذلك من معان..

يتصور البعض أن "القوة الناعمة" هى القدرة على فرض النفوذ، رغم أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا باستخدام القوة الخشنة أو التهديد بها، ويتصور البعض الآخر أنها القدرة على الإقناع وقوة الحجة، ورغم أن ذلك جزءاً هاماً بالفعل إلا أنه غير كاف، وفى تقديرى أن تلك القوة الناعمة فى التحليل الأخير لا بد أن تعنى "قوة النموذج" أو قدرة الدولة على تقديم عناصر قوتها الشاملة بالشكل الذى يجذب الآخرين إليها ويدفعهم على الاقتداء بها..

ولقد أدهشنى أن البعض تساءل بحرقة: "لماذا يكرهنا العرب؟"، ورغم أن السؤال نفسه غير علمى ومشحون بقدر كبير من العاطفية والشوفينية على الأقل لأنه يفترض أن العرب يجب أن يحبوا المصريين بالذوق إذا كان ممكناً وبالعافية إذا كان ذلك ضرورياً، ويلحق بهذا السؤال عرضا بما قدمته مصر من تضحيات ومساعدات للعرب، ويتباكى بعض المثقفون على ما يطلقون عليه القوة الناعمة التى تبخرت..

وبيت القصيد فى الدهشة هو ذلك الافتراض التعسفى بوجود هذه القوة، الذى لا يمحص الواقع بشكل علمى، ولكى أعطى أمثلة فيكفى المقارنة مثلاً بين أغنية مثل "الأطلال" وأغنية مثل "با احبك يا حمار"، أو بين أغنية "عدى النهار" وأغنية "أنا باكره إسرائيل"، وقائمة المقارنات قد لا تنتهى، وعلى أية حال كما سبق أن أوضحنا فإن القوة سواء أكانت ناعمة أو غير ذلك لا تعتمد فقط على بعدها الثقافى، والمسألة لا تتعلق بالكراهية أو بالحب وإنما بالاقتناع العقلى بقوة النموذج وإمكانياته على الجذب والتأثير.

أخشى أن البعض يقع فى مبالغات تؤدى إلى استنتاجات غير صحيحة، ويقيس على غير قياس ما بين أوضاع وظروف تاريخية على أخرى مختلفة تماماً، وفى علم السياسة تتركز علاقات الدول على المصالح، وهى علاقات صراع وتعاون، وفى حالة الصراع تتغلب القوة بمعناها الشامل، بينما فى حالة التعاون يمكن أن يكون هناك هامش لما يطلق عليه القوة الناعمة بمفهومها الصحيح (أى قوة النموذج)، لذلك كله لا أجد داعيا لجلد الذات والآخرين بوهم مصطلح يفتقد التعريف الصحيح، ويستحيل التطبيق حتى فى تعريفه الصحيح لأسباب تخرج عن نطاق هذا المقال، وأرجو أن يتخلى بعض مثقفينا عن تلك الرطانة اللفظية التى توقع الناس فى الحيرة وأحياناً تدفعهم إلى ردود فعل غير منطقية.

وأخيراً فإنه إذا كان للقوة الناعمة محل، فيجب أن تتركز فى بنيتها الأساسية، أى فى خلق النموذج والقدوة داخلياً، بالعمل الجاد وتحقيق التنمية وتغيير السلوك، ولن يتأتى ذلك بأحلام اليقظة أو باستدعاء القوة بأثر رجعى، أو بالإغراق فى شوفينية وخلطها الزائف بمعنى الوطنية.

• عضو اتحاد الكتاب المصرى.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة