معصوم مرزوق

الساحرة المستديرة

السبت، 18 ديسمبر 2010 07:35 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مبروك لقطر تنظيم مباريات كأس العالم لعام 2022، بما سوف يشجع فى زيادة الوعى الكروى فى العالم العربى.. على ضوء ذلك زاد إهتمامى مؤخراً بالرياضة، وفى الصفحة الأولى من إحدى صحفنا السيارة قرأت عنواناً بالخط العريض "المدرب فلان يتحدى"، وقلت فى نفسى: "هذا إعلان بالحرب"، وسارعت أفتش فى أعماق تلك الصحيفة بحثاً عن التفصيلات كى أعرف حجم الحشود التى سوف يحشدها المدرب المذكور، وإستراتيجية الهجوم، وتكتيكات المبادأة والخداع، وهل سيبدأ الهجوم جواً أو بحراً أو براً، وما هى إمكانيات حارس المرمى الهمام فى صد كل هذا وذلك وكذلك؟

وفوجئت بأن الصفحات الداخلية ليس فيها شيئاً عن هذا وذلك وكذلك، ولا تحدى ولا يحزنون، فشعرت بالإحباط لأن أغلب النفوس الطيبة تريدها ناراً والعة يتفرجون عليها، من باب التسلية والتسرية عن الناس، وقررت أن أبدأ رحلة بحث عن الصحف المضادة المعنية، لعلى أجد أساس ذلك الخبر المبتسر فى الصفحة الأولى للصحيفة السيارة، فلا شك أن الصحف ذات اللون المنافس حملت تصريحات نارية بركانية، تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور للمدرب المذكور وأركان حربه وضباطه وكل القوة الضاربة للفريق.

ولكننى أمسكت نفسى عن المبادرة والحماس، مخففاً عن نفسى بأن الموضوع على أى حال لا يزيد على مباراة لكرة القدم، وكم من مباراة سابقة قرأنا فى صحفنا السيارة مانشيتات عريضة عنها تتحدث عن "انتقام الفراعنة"، و"إن الفريق الفلانى مسح الأرض بالفريق العلانى"، و"هزيمة بالخيبة والويبة".. ألخ، وكم تبوأ ناقد مقعده محللاً ومفنداً سواء فى الصحافة أو التليفزيون، شارحاً أسباب الهزيمة (التى يمكن بقدرة قادر أن تكون هى نفسها أسباب النصر)، وهى مكررة على نمط "أنه لا يتم الفتح على الأجناب، ومحاولة الاقتحام من العمق، وعدم السيطرة على منطقة المناورات"، وهى أسباب تستعير من القاموس العسكرى اصطلاحات وتضيفها بجدارة إلى القاموس الرياضى.

إذن المسألة فى صحافتنا هى حرب ضروس وليست مجرد مباراة فى كرة القدم، وبالتالى فليس هناك مبرر للانزعاج من الهوس الذى يصيب بعض المشجعين من جمهور عشاق كرة القدم، والذى هو استجابة تلقائية لما تدفعه إليه وسائل الإعلام، بل – وما دام الأمر كذلك - لابد من مكافأة ذلك المواطن الصالح الذى قذف "الطوبة" الشهيرة فحرمنا من دخول كأس العالم، وكل أولئك المواطنين الصالحين الذين يزمجرون بصيحات الغابة وبكل مفردات البذاءة التى تدخل إلى البيوت لتربية أطفالنا من خلال وسائل الإعلام، ولعلنا نفكر فى أن نقيم تمثالاً أمام مدخل إستاد القاهرة يمثل مواطناً وهو يقذف "طوبة" تخليداً لذلك التقليد الجميل.

والواقع أن ذلك الأسلوب لا يقتصر فقط على الصحف المصرية السيارة، وإنما يمتد أيضاً إلى الصحف العربية السيارة، والنتيجة هى أن أى لقاء رياضى عربى يكون أكثر وعورة من مواجهة عسكرية بينهما، فالأعصاب متوترة، وأى هدف سيتم إحرازه فى مرمانا هو عار لا يغسل إلا بالدم، وأى ضربة جزاء يحتسبها حكم متهور هى تحيز فاضح، ولذلك فأن حكام كرة القدم فى بلادنا هم ضحية هذه الرياضة، فلا يخرجون من أى مباراة إلا فى حماية قوات كثيفة من الشرطة، وبعضهم قد يخرج إلى المستشفى مباشرة، فضلاً عن الألفاظ الراقية التى يلحقها الجمهور المهذب بعائلة هذا الحكم الغلبان.

والمصيبة هى أنه رغم ذلك الحشد الحربى الكبير، فإن أقل الرياضات تحقيقاً لانتصارات على المستوى الدولى هى رياضة كرة القدم، واللاعب الذى تفرد له صفحات الصحف السيارة ومحطات التليفزيون وخزائن الأندية وبعض محافظ رجال الأعمال، ذلك اللاعب له فى الملعب مشوار واحد فقط لا غير (إما رايح وإما جاى!!)، وهذا هو كل المراد من رب العباد، حيث أنه بعد هذا المشوار يستمتع اللاعب بدفء الشمس ومتابعة المباراة شأنه شأن السادة المتفرجين أو ربما يغتنم أية فرصة للإعتداء على الحكم أو لاعبى الخصم أو زملائه أو المتفرجين، فهو (كما يقول المعلقون) منفعل بالمباراة، مجرد انفعال برىء طاهر، أو حماس ملاعب.

وحتى كتابة هذه السطور لا يمكن لأحد أن يتنبأ أو ينجم بالتاريخ الذى سيتوقف فيه هذا اللغو غير المفهوم، فهو مثل "جنون البقر" الذى أصاب البشر، وكما أن هناك من يبيعون لحوم البقر المصابة سعياً للكسب والربح، فإن هناك من يبيعون فيروس العصبية وضيق الأفق سعياً لنفس الشئ ولأسباب أخرى فى نفس يعقوب، والمدهش أن هذا النوع يلاقى إقبالاً كبيراً، مما أدى إلى ظهور مجلات وصحف متخصصة فيه، بل وزادت مساحته على خريطة البرامج التليفزيونية، ودخلت مصطلحات جديدة مثل "الساحرة المستديرة، مولود فى مربع العمليات، وهبه هبة هبة، وياسلالالالام.. إلخ"، وأصبحت مفردات الكلام عند أطفالنا مواليد عصر الإنترنت وزمن الانتفاضة الفلسطينية!!.

إلا أن أمتع ما يعجبنى فى مباريات كرة القدم، هو أسلوب بعض المعلقين، منهم مثلاً من قيل عنه أنه كان يشكو من ضعف البصر، ولذلك كان يكتفى بالوصف العام للمبارايات، وأن يصيح من وقت لآخر: "خش عليه.. لا لا لا.. مش ممكن.. إيه ده هى دخلت جون؟.. "وهكذا ربما ظل يذيع المباراة حتى بعد انصراف اللاعبين والجمهور إلى بيوتهم، وهناك معلق آخر يبتدع مصطلحات جديدة، ويواصل نصحه للاعبين والأشبال والحكام والجمهور، والمثير أن هذا المعلق بالذات مارس كرة القدم لمدة قصيرة جداً، ولم يوفق تماماً، وظل مركوناً حتى اعتزل وقرر أن ينصح الآخرين كى يتلافوا أسباب فشله.

وفى المدرجات سوف تجد ذلك الذى يحلل لمن حوله أسباب ضياع بطولة الدورى، ويقاطعه أحدهم وهو يقسم بأغلظ الأيمانات أنه لو كان مسئولاً عن الفريق لأمكنه الحصول على بطولة أفريقيا وآسيا والعالم والكواكب، لكن – لسوء حظه وحسن حظنا – لم يكتشف أحد قدراته، وسوف يقف ذلك الرجل النحيل المعدم ثائراً على الفريق الذى يشجعه منذ خمسين عاماً ويتابعه فى كل مكان لدرجة أن أولاده يتضورون جوعاً وهو ينفق دخله الضئيل فى متابعة ذلك الفريق الذى احترف الخسارة.

وبعد استعداد وتأهب، احتشدت الجماهير متوجهة إلى استاد القاهرة، مائة ألف تمكنوا من الدخول، بينما وقف أضعافهم خارج أسوار الإستاد تحاصرهم قوات الشرطة، فلا هم استطاعوا الدخول، ولا هم استطاعوا العودة إلى منازلهم لمتابعة المباراة، وأصبح مصيرهم أن يتابعوا بآذانهم زئير الآلاف فى داخل الإستاد ويعتمدوا على غدة الخيال فى تصور وقائع المباراة.. وامتلأت قنوات التليفزيون بالمحللين الإستراتيجيين، بعضهم ينصح المدرب الهمام، والبعض الآخر يتحدث عن المستوى العالمى الذى وصل إليه اللاعبون، ويقاطعهم بعض الأفراد الذين يتصلون بالهاتف كى يضيفوا آراءهم، فالمباراة ليست عادية، فريق الدولة العربية الشقيقة "كعبه عالى على فريقنا"، ثم إن تلك مباراة فاصلة فى الطريق إلى كأس العالم، وستجد من يقول ببساطة الأطفال : "إذا اجتزنا عقدة هذا الفريق، فو الله ممكن نأخذ كأس العالم"، وتنتقل الكاميرا إلى الملعب الهادر، وتحتبس الأنفاس، وتذهل كل مرضعة عمن أرضعته، ويفر المرء من أمه وأبيه، وتركز العدسات على وجه المدرب الهمام، ويكاد صوت المعلق أن يضيع وهو يصرخ متحدثاً عن التكتيك والإستراتيجية، والتوازن الدفاعى الهجومى، وهل سيلعب المدرب بمهاجم واحد أو بمهاجمين؟، وتنقسم الآراء، ويرى البعض أن طريقة 4-4-2 لا تناسب الفريق المصرى، بينما يرى البعض الآخر أن طريقة 424 ربما تناسبنا أكثر (وقد يكون ذلك تفاؤلاً ببركة القرار 242 الشهير لمجلس الأمن).

ثم.. ثم يصفر الحكم.. وتنطلق الكرة حائرة بين أقدام اللاعبين، ويرتفع ضغط الدم، وينخفض نبض القلب، وترتفع الشعارات الوطنية هادرة، ثم يستعطف أحد المعلقين الكرة أن تدخل المرمى: "أدخلى يا شيخة.. أدخلى بقى"، ويكاد فى لحظة أخرى أن يطلب معجزة من السماء، بينما "الساحرة المستديرة" تذهب إلى كل مكان بينما تتمرد على الدخول إلى المرمى، وكأنها تخرج لسانها للجميع، ويبدو اللاعبون وقد تقطعت أنفاسهم واصفرت وجوههم ولا يتمنون شيئاً فى الدنيا قدر أمنيتهم أن تنتهى المباراة بأى شكل ويحسن الله خاتمتهم، وتنتقل العدسات على وجوه الجماهير اليائسة، وتكاد تقرأ على ملامحهم الرغبة فى النزول إلى أرض الملعب من فرط الحماس كى يقوموا بترويض تلك الساحرة المتمردة، ويقترب المدرب الهمام من خط التماس، ويصرخ المعلق أن المدرب العظيم أعطى الآن إشارة خاصة سوف تقلب المباراة رأساً على عقب، ثم يتساقط لاعب (من الإرهاق) وينظر للحكم وكأنه يرجوه أن يحتسب "فاول" أو "ضربة جزاء" أو على الأقل ينهى المباراة ويريحه من هذا الهم الثقيل، ويقسم المعلق أن الحكم لم يكن موفقاً فى هذا القرار أو ذاك، وتزووم المدرجات، ويندفع أحد اللاعبين كى يفك العمل ويبطل السحر فيهز بيديه شباك فريق الخصم، ولكن السحر لا يبطل، وتقترب المباراة من نهايتها، بينما الساحرة المستديرة تنتقم من كل هؤلاء الذين ركلوها بأقدامهم وتتمنع عن الدخول إلى المرمى.

ثم.. كالسكتة القلبية.. يصفر الحكم صفارة النهاية، ويتقافز لا عبو الفريق المنافس فرحاً وبهجة، ويبدأ المتفرجون فى معاناة رحلة العودة إلى منازلهم، بينما لا يزال بعض المعلقين يتحدثون عن الإستراتيجية والتكتيك والتوازن الدفاعى الهجومى.

وفى الواقع، لا يمكن أن أختتم هذا المقال دون أن أبدى رأيى الفنى فى المباريات، وأساهم مثل الآلاف فى مساعدة المدرب الهمام، فالمسألة بسيطة، الفريق يحتاج إلى الخبرة، ولا يمكن أن تعهد مهمة قومية خطيرة مثل تلك إلى شباب فى العشرينات، فلا بد لمدرب المنتخب القومى أن يعيد النظر فى تشكيل الفريق، وخاصة فى خط الهجوم، وأنا أقترح أن يشترك فى مركز الهجوم اللاعب القدير على أبو جريشه، فلا شك أن خبرته سوف تساعد فى ترويض الساحرة المستديرة، ولا بأس أن يشارك معه الكابتن الشاذلى، ثم.. ثم إذا كانت المسألة مسألة سحر وجان، فلا بد أن يكون الشيخ "زعبوط" من أهم اللاعبين، ويكون دوره هو تبخير مرمى الخصم، وتسليط الجان والعفاريت على لاعبى الفريق الآخر كى يسخطهم أو يصيبهم بجنون البقر، ومن ناحية أخرى فمن الأهمية بمكان أن يعالج لاعبينا بـ " طاسة الخضة " كى يزيل عنهم رهبة المبارايات، ثم.. ثم نصيحة لجماهيرنا الحبيبة، بدلاً من التزاحم وحرقة الدم، يمكنهم أن يكونوا أكثر فائدة لو ذهبوا إلى المساجد كى يتوجهوا بالدعاء على الفريق الخصم بأن يشل الله حركتهم فى الملعب، وينفخ الروح فى فريقنا.
• عضو اتحاد الكتاب المصرى







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة