فى أيام العصر الشمولى كانت القسمة فى البرلمان بين الفئات والعمال والفلاحين، وكان الهدف التشريعى والدستورى هو الحفاظ على مكاسب وحقوق الفئة المنتجة فى مصر بطول أرضها وعرضها، وبارتفاع مداخن مصانعها وشركاتها وصروحها الكبرى، وكانت تغلب على مرشحى الفئات صفة (التنكوقراط) من مهندسين ومحامين وأطباء وموظفين عموميين، وهذا لا ينفى وجود بعض كبار الملاك وبقايا الاقطاع القديم، لكنهم كانوا استثناءً على القاعدة، أما دائرتى فى الشرقية فقد تفتّح وعيى على المشاركة السياسية بوجود عامل فى شركة أتوبيس شرق الدلتا نائباً عن العمال، ومحامٍ معروف على مقعد الفئات، فى تلك الأثناء كانت الدولة - بطبيعتها ومشروعها - منحازة للأغلبية الفقيرة فى المجتمع، وتقدم لها سائر الخدمات بالمجان من صحة وتعليم وتوظيف وبناء مدارس ومصانع وإنشاء طرق وبنية أساسية، ومن ثم لم يكن النائب محملاً بتلال من طلبات الوظائف والعلاج على نفقة الدولة وسائر الخدمات الأساسية، بعدما أصبح مطلوباً من النائب أن يتحول إلى دولة موازية، تقوم بدور الدولة الغائبة.
وخلال الانتقال التدريجى من مرحلة نواب للشعب إلى نواب للنهب، شاهدنا الأجهزة التنفيذية تدعم مرشحى الحكومة بطريقة تعبر عن الاحتيال الظريف، فالوعود التى يقطعها مرشح الحكومة تتحقق خلال ساعات، فتجد - مثلاً - أدوات ومعدات الرصف فى المكان، أو أعمدة الكهرباء فى مدخل القرية، أو نرى افتتاح الإنشاء لكوبرى يربط بين بلدين، لكن بعد انتهاء العملية الانتخابية ونجاح مرشح الحكومة يتم سحب كل هذه الأشياء، لتعود مرة أخرى فى الانتخابات القادمة، عملاً بقاعدة أن الناس تنسى.
المهم أن الأيام مرت مرور اللئام وانتقلنا سريعاً من تقسيم الفئات والعمال إلى قسمة الكتل البرلمانية، والتى كان وجودها ديكورياً وغير مؤثر لإصرار حزب الحكومة على امتلاك ما يزيد على نسبة الثلثين، إلا أنها - من حيث الشكل - حافظت على ورقة التوت التى تستر عورتها، ورأينا مقارعات وصولات محترمة لنواب من المعارضة، تفخر بها مضابط المجلس، إلى أن وصلنا لبرلمان 2005 الذى شهد معارك تشريعية ورقابية عنيفة، ومناظرات حادة، انتصر فيها رجال الاستقرار بإقرار التعديلات المعيبة للدستور، واكتسح فيها رجال الأعمال مشاريع القرارات الاقتصادية، التى انحازت للقلة على حساب الأغلبية، وفى كل الحالات تم دفن جثة التشريع القائل بالخمسين فى المائة للعمال والفلاحين فى مقبرة الإفقار الجماعى، ومع ذلك مازالت حكومة وحزب رجال الأعمال يدافعون عن هذا التشريع باستماتة، وهو أمر مضحك، لكنه ضحك كالبكاء، لأن الجميع يعرف أنهم لا يستهدفون من هذه القسمة سوى خدعة (اللعب فى الصفة) بتحويل من يريدون أو الطعن فيمن لا يريدون.. الآن ونحن فى ظل برلمان 2010 أحادى القطبية، فالصحيح أنه صار حكراً على الحزب الحاكم، إلا أنه أيضاً يكرس لقسمة جديدة فى الحياة البرلمانية المصرية، فتوجد تحت راية الحزب الوطنى كتل متماسكة متراصة لها مصالح مشتركة، ففى المجلس - على سبيل المثال - كتلة من 49 نائباً من ضباط الشرطة النظاميين، ولا يعنى هذا الرقم أن الباقين لا علاقة لهم بأجهزة الداخلية، وبحسب النسب والتعريفات الدقيقة لأصحاب المال يوجد (30) من رجال الأعمال، يحتل بعضهم رئاسة اللجان الأكثر أهمية بالمجلس ولا يعنى ذلك - أيضاً- أن الأعضاء الآخرين ليسوا من رجال الأعمال، ففيهم كبار ملاك وأصحاب نفوذ وكبار عائلات وعُمُد ووزراء وتنفيذيون، أما الكتلة الرابعة فالبعض منهم يملك صفحة جنائية معتبرة وبعضهم فى انتظار أحكام.. تخيلوا ماذا يمكن أن تفعل هذه الكتل البرلمانية التى صار لها حصانة، وتتمتع بأكذوبة سيد قراره؟ هل يدافع رجال الأعمال عن العمال؟ أو هل يناضل كبار الملاك لحماية مصالح الفلاحين وصغار المستأجرين؟ وهل ينتصر بعض أرباب السوابق لمبدأ الشفافية والنزاهة؟ ومن سيحاسب الحكومة ويراقب خططها، وإلى من سيتجه التشريع فى هذه الدورة؟