◄◄ أمين التنظيم حوّل العلاقة الحزبية إلى نموذج لعلاقة الباشا الكبير بموظفيه الصغار قائمة على الطاعة
ركّز الخاسرون وبعض الناجحين فى الانتخابات التشريعية الأخيرة سهام غضبهم على أمين تنظيم الحزب الوطنى الديمقراطى، وحمّلوه مسؤولية إسقاط المعارضة وكثير من العناصر المحترمة فى الحزب الوطنى، ونشر البلطجة والعنف وشراء الأصوات، واعتبروه فشلَ فى إدارة انتخابات فيها حد أدنى من النزاهة نتيجة دخوله السياسة من عالم المال، ونتيجة قيادته لحزب فى السلطة، وبالتالى لم يعرف معنى- وربما ثمن- ممارسة العمل السياسى وهو خارج السلطة، وهو الأمر الذى يطرح سؤالين، الأول يتعلق بمشكلات حزب السلطة أو الدولة فى بلادنا، والثانى بعلاقة المال والسياسة فى مصر.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، فنحن أمام مشكلة تتجاوز أمين تنظيم الوطنى، وهى مشكلة حزب قرر الرئيس السادات أن يرى النور فى عام 1978، فهرول إليه كل أعضاء حزب مصر العربى الاشتراكى (حزب السلطة الآخر الذى اختفى من الوجود بجرة قلم من الرئيس الراحل)، وأصبح الحزب الوطنى هو حزب الحكومة الجديد، فضم رجال الإدارة والسياسة وأنصار الرئيس وأحباءه وربما منافقيه، فى مشهد يدل على أنك أكيد فى مصر.
وأدى اعتماد الحزب الوطنى على مؤسسات الدولة إلى انتقال الثقافة السياسية السائدة داخل أى مصلحة حكومية إلى بنيته الداخلية، وأصبحت الغالبية العظمى من أعضائه يتحركون بناء على أوامر إدارية، وصارت علاقاتهم بقادتهم الحزبيين مثل علاقة الموظفين برؤسائهم فى المصالح الحكومية أو الشركات الخاصة، والمطلوب منهم الانتظار على أبوابهم من أجل الحصول على استثناء أو خدمة فى ظل نظام غابت عنه أى معايير موضوعية للحراك المهنى والسياسى.
وصار الحزب مكتظاً بالمتكالبين على إيجاد مواقع لهم فى قوائمه الانتخابية وسلمه القيادى، ليس بسبب عبقرية قيادته، ولا بسبب خطة السياسى المقنع، إنما ببساطة لكونه «حزب الدولة» القادر على تقديم خدمات لأعضائه فى ظل غياب أى فرص حقيقية لتداول السلطة مع أى أحزاب أخرى، فضم تشكيلة متنوعة من كل ألوان الطيف السياسى وغير السياسى، وأعدادا هائلة من الأعضاء الراغبين فى الاستفادة من مؤسسات الدولة لحل بعض المشكلات الموجودة داخل دوائرهم الانتخابية أو مناطق نفوذهم، وبعضهم كانوا من المخلصين الذين استسهلوا فكرة الحل أو الإصلاح من خلال حزب الحكومة القادر على ضمان مقعدهم فى مجلس الشعب، أو مساعدة أبنائهم وأهل دائرتهم.
ولعل تحدى بناء حزب سياسى ولد فى أحضان السلطة ليس بالتحدى السهل، وكان يمكن أن يحاول الحزب الوطنى بقليل من الجهد والخيال على يد القيادة الجديدة أن يخرج من هذه الولادة المشوهة، وهو ما لم يحدث.
فمن المعروف أن حزب الحكومة أو السلطة قادر على جذب مئات الآلاف من العضوية الوهمية لمصلحة أو لحصانة أو حتى رغبة فى خدمة عامة، وترك عضويته المليونية تعيش وسط حالة من الفوضى والعشوائية والتخبط، رغم أنه يضم عقولا لامعة، استسلم كثير منها للأمر الواقع، ونست أو تناست أفكارها الإصلاحية أمام الرغبة الجامحة فى البقاء فى السلطة.
والحقيقة أن هذا الإرث يعرفه جيداً القادة الجدد فى الحزب الوطنى، ومع ذلك لم يحاولوا تغييره، وارتاحوا لفكرة حزب السلطة وعمّقوها، مع محاولة نقل طريقة إدارته من نمط إدارة المصالح الحكومية إلى الشركات الخاصة، وهو ما حاولوا فرضه أيضاً على الدولة المصرية حتى أصبحنا أمام مشكلة أخرى اسمها علاقة المال بالسياسة.
والمؤكد أن الصعود المفاجئ لأحمد عز فى عالم المال واحتكاره تجارة الحديد فى مصر، جعل انتقاله إلى السياسة لا تحكمه أى قواعد، وبصورة جعلت تعامله مع الاثنين كأنهما أمر واحد، فالجميع يعرف أخطاء «البيزنس» وخباياه فى بلد لا يخضع لمعايير الكفاءة والنزاهة والابتكار، إنما فى كثير من الأحيان لما هو عكس ذلك، وإذا افترضنا أن حالة عز لم يشب عملها التجارى أى شائبة، فإن العمل السياسى تظل له قواعد و«كود» يختلف عن مجال المال والأعمال، وهو ما لم يحاول أن يعرفه أو يتعلمه، لأنه ببساطة انطلق من نقطة رجل الأعمال الكبير ذى الثراء الفاحش والقوة المطلقة جعلته يتصور أنه يعرف فى كل شىء، وجعلت التواضع- ولو الشكلى- الموجود عند السياسيين غائباً عنه.
وحين تحدث الرجل منذ عدة أشهر فى مجلس الشعب المصرى عن القضية الفلسطينية، تعامل مع دور مصر بمنطق التجارة، وتحدث فى أشياء معنوية وثقافية بمنطق المكسب والخسارة، قائلاً: هل لو قامت الحرب ستدعم قطر التى وصلت إيراداتها السنوية إلى 100 مليار دولار مصر، وهل ستفعل السعودية ذلك والجزائر؟ وقال عز إن الحديث عن استضافة العرب لا خلاف عليها، لكن لو أراد العرب الحرب فعلى كل منهم أن يقدم جزءاً من عنده، ومصر ستكون رقم واحد ولكنها ليست الوحيدة.
وأضاف قائلاً: «إن المواطن الفلسطينى يجب أن يكون أول من يبكى على نفسه ونحن سنكون ثانى من يبكى عليه».
وهنا ربط دخول مصر فى أى حرب ضد إسرائيل بمن يدفع، والحقيقة أن الحروب لا تدخل فيها الدول لاعتبارات مالية، فهل لو تعرضت مصر لهجوم هل ستنتظر من يدفع لها حتى تدافع عن نفسها؟، بالتأكيد لا، وهل هناك عاقل يمكن أن يربط دور مصر فى دعم القضية الفلسطينية بالمال، أم بالدافع عن مصالح مصر والحيوية والإستراتيجية التى لا تقدر بمال، وأخيرا فإنه لا يوجد عاقل فى مصر- وبصرف النظر عن موضوع المال- يطالب الحكومة المصرية بمحاربة إسرائيل عسكريا لمصلحة حماس أو حزب الله، أو على حساب مصالحها الوطنية (التى هى أيضا لا تقدر بمال) إنما المطلوب هو دعم الشعب الفلسطينى بكل الوسائل السياسية والقانونية والإعلامية، لا أن نعايره بحاله ونقول له ابكِ على نفسك.
وقد امتد هذا الفهم التجارى إلى ماجرى فى الانتخابات الأخيرة، حين بدأ أمين التنظيم فى الحزب الوطنى باختراع نظام لم يعرفه أى نظام حزبى آخر فى الدنيا، فسمح لـ800 مرشح من أعضائه بمواجهة بعضهم البعض، فيما عرف بالدوائر المفتوحة فى مشهد يدمر أبسط معانى الانتماء الحزبى البديهية، والمعروفة فى كل مكان فى العالم، وهو مقتبس من حياة المال والأعمال فى البلدان غير الديمقراطية التى تقوم على المنافسة المفتوحة التى لا يحكمها أى رابط، كما كرّس لنمط جديد من العلاقات الحزبية غير المسبوق أيضاً حين وضعها فى قالب شبيه بعلاقة «الباشا الكبير» صاحب الشركة، والموظف البسيط، حين فرض على مرشحى الحزب الوطنى التوقيع على عقود إذعان يستسلم فيها كل من قدّم أوراق ترشيحه لمجمع الحزب الانتخابى إلى أمين تنظيم الحزب أو أمين المحافظة، ويعلن فى توكيل رسمى فى الشهر العقارى أنه لن يترشح كمستقل فى مواجهة مرشحى الحزب الرسميين.
وهنا لم يهتم أمين التنظيم ببناء خبرة أخرى غير التى عرفها فى المال والتجارة، فلم يجتهد من أجل أن يربى أعضاءه وكوادره على أبجديات العمل السياسى والتنظيمى التى تقول إنه يجب احترام قرارات الحزب الذى آمنوا بفكره واختياراته حتى لو لم يخترهم كمرشحين فى الانتخابات، وما طبيعة هذا الحزب الذى يخشى أن ينقلب عليه أعضاؤه ويبيعوه فى ثانية لمجرد أنه لم يرشحهم فى انتخابات، وإذا كان يرتاب إلى هذه الدرجة فى أعضائه فماذا سيفعل مع الأحزاب الأخرى ومع عموم الناس؟.
إن ما فعله مع باقى الأحزاب ومع عموم الناس شاهدناه فى الانتخابات الأخيرة التى شهدت استئصالا ثأريا لرموز المعارضة كالتى رأيناها فى معارك كبار رجال الأعمال فى أوروبا بداية القرن العشرين، وغاب عنها الحد الأدنى من الفهم والحس السياسى لطبيعة المرحلة التى تمر بها مصر التى لابد أن تعتبر أن المعارضة جزءا أصيلا من شرعية النظام، وأن أعضاء ومرشحى ونواب الحزب الوطنى يجب أن تكون هناك معايير سياسية لاختيارهم، تعتمد على مهارتهم السياسية، وعلى فهمهم للأمور العامة والمحلية، وعلى الإيمان بفكرة أو رؤية أو تصور سياسى ما، وهذا يستدعى إعادة النظر فى كثير مما بناه أمين تنظيم الحزب الوطنى ومشروع الفكر الجديد، لأنه أفضل لمصر أن يتحول الحزب الوطنى إلى حزب طبيعى يحصل كما حصل فى انتخابات 2005 على 32%، ويصلح نفسه من داخله بتحول مشروع جمال مبارك وأحمد عز من مشروع توريث إلى مشروع سياسى يقبل بالتنافس بشكل حقيقى مع مشاريع سياسية أخرى من داخل الحزب وخارجه، ومن داخل الدولة وخارجها.
د.عمرو الشوبكى
«عز» أدار الانتخابات بعقلية تاجر الحديد بلا نزاهة أو ابتكار
الجمعة، 17 ديسمبر 2010 01:16 ص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة