ماهر فرغلى

أنا أحب النظام وأكره التغيير

الإثنين، 13 ديسمبر 2010 06:56 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تقهرنى أفكارى الآن، ومشاعرى تتجاذبنى لأقاوم الاكتئاب.. كأننى فى رقعة سوداء مظلمة أو نصف دائرة، لن أتحدث عن كل ما دار بالتفصيل، ولكن دعونى أصف لكم حالتى وأنا قادم من الصعيد بعد زيارة أهلى إلى قاهرة المعز..

كنت أحمل أحلام البسطاء فى جنينة المغاربة التى يعيش أهلها تحت مستوى أقل من الفقر بمراحل.. أحلام عم بدوى الذى قال لى "كلم لى بتوع الصحافة يشوفوا حل لى فى مشكلة الكشك اللى أزاله مجلس المدينة"، والست أم عيد العجوز الكفيفة التى تعول ابنة قعيدة ومشلولة وهى تقول لى: "يا سلام لو قدرت تجيب لنا الليثى هنا"، وغيرهم، وغيرهم..

كثيرون من الناس كانت القاهرة تعنى لهم تغيير حالتهم التى لن يستطيع أن يغيرها أحد سوى الله، وكانت تعنى لى جهات مشرعة مفتوحة لا تحجبها أسلاك وأشواك.. تعنى لى قادة التغيير وأرباب الفكر والقلم.. تعنى لى هذه النخبة المثالية من كل الأنواع والأبدان التى أراها وأسمعها وهى تناقش وتهاجم وتضغط وتضع الأهداف.. كنت أحمل لهم رسالة من كل هؤلاء الناس، هم لا يعرفون أننى لن أقدر ولن أستطيع أن أوصل طلباتهم لأى إنسان، وهم لا يدركون ما اعترانى.

إننى حاولت أن استنسخ من نفسى إنساناً آخر.. أصبح شعرى منكوشًا.. ألبس نظارة، وكتاباً فى يدى، وأجلس مع الشباب والشابات على قهاوى وسط البلد وفى يدى لاب توب (صدقونى اقترضت ثمنه) كى أدخل على الـ"فيس بوك" وأعمل "شات" وأوجه بيانات، وأنا أحتسى فنجان قهوة فأنا لم أستطع أن أشرب ويسكى أو حشيش أو أدخن سيجارا أنفث دخانه فى منتصف دائرة، وأنا أدعم بيانًا مكتوبًا يدعو الناس لإضراب عام، ثم نذهب معاً إلى ندوات تناقش حالة الديمقراطية فى مصر، وأقول نعم ونعم، ولا ثم ألف لا، وأحضر مؤتمرات لقادة الأحزاب والرأى وأتكلم وأسهب فى الكلام مثلهم عن حال البلد وعن سيطرة الحزب الواحد، استنسخت من نفسى إنساناً آخر، وأتحدى أى واحد من جنينة المغاربة أن يعرفنى وأنا أجلس بين المناضلين الوطنيين والوطنيات.. تصورت أن هذا هو الطريق لحل مشاكل الناس.

إلى هذا الحد أستطيع أن أجد العذر لنفسى أمام هؤلاء الذين حمّلونى أمانة مطالبهم وحاجاتهم، يمكننى أن أجد العذر إذا رأونى أجلس بين هؤلاء الفتيان والفتيات، وأقول لهم إنهم شباب التغيير، ولكننى لن أجد العذر لنفسى إذا سمعت من يهين الدين بحجة الحرية أو ينتقد تاريخ الأمة بحجة الوطنية، أو يدافع عن السفور والتحلل من الدين بدعوى الليبرالية، نعم لن أجد العذر أمام نفسى أولاً ثم أمام الله، وهذا ما جرى بالضبط فى إحدى المراكز المشهورة جداً فى الدراسات الإنمائية وهى تناقش حالة الديمقراطية فى مصر، أحدهم كان "يرغى" بكلام كثير ولا أعرف لماذا انحاز بالكلام ناحية التاريخ الأول للأمة الإسلامية قائلاً على الصحابة "إنهم تركوا رسولهم ميتاً واختلفوا حول السلطة"، وتناظرنا وتناقشنا ولم نصل إلى حل سوى أن الذين يريدون التغيير إلى الديمقراطية هجموا علىّ هجمة رجل واحد وكلهم أصبحوا أعداءً لكل ما هو إسلامى، وكان على أن أنصرف إلى إحدى دور الكتب المشهورة لأجد أديباً مشهوراً جداً يناقشنى فيما حدث ويقول لى "إن النصوص الدينية هى التى أضاعت مصر وأنه يريد من الناس أن تعتصم أمام مجلس الشعب فى ثورة ضد القرآن، كما يعتصمون من أجل لقمة عيشهم"، أقسم بالله أن هذا ما جرى بالضبط، بل جرى الأدهى من ذلك، حيث قالت لى إحدى قادة التغيير والمقربة من مرشح الرئاسة السابق، لماذا أرى هذه العلامة فى جبهتك "تقصد علامة الصلاة".

قد يستنكرنى أحد الناس بأننى أعمم ولكن خبرتى فى هذه الأشهر جعلتنى أتأكد أن الذين يتصدرون المشهد الآن والذين يطلبون الحرية والليبرالية يطلبونها لكل شىء إلا الإسلام، ومن يطلبون الديمقراطية يطلبون فى المقابل الديكتاتورية للدعاة إلى الإسلام، وأنا أعرف الأسباب لأنهم يرون أن الإسلام سيقيد حريتهم، وسيحرمهم من كأس الوسكى التى يشربونها، وسيقف بالمرصاد أمام المكاسب التى يجنونها من حكاية التغيير (الشهرة والمكاسب المالية).

إننى لا أقصد مجموع الكتاب الذين يطالبون بالتغيير وهؤلاء الوطنيين الشجعان المشهود لتاريخهم بالنصاعة والبياض، ولكننى أقصد هؤلاء الذين يجلسون أمام الـ"فيس بوك" والسيجار الملفوف بالحشيش فى فمهم والبنت الوطنية بجوارهم.

هل الذى جرى بجوارى هو الواقع الجديد الذى وبكل مقوماته لن أستطع أن أغير منه شيئاً؟ هل هذه هى الحقيقة بكل تجلياتها؟ الفكر والعلاقات الاجتماعية الجديدة وثورة التغيير بطريقة جديدة فرضت نفسها على الجميع؟.

إذا كانت الحكاية هكذا فأنا سأصنع مقارنة بين الديكتاتورية التى بها بقية باقية من الدين وبين الديمقراطية التى قد تذهب بهذه البقية، وأقول أنا لا أقبل هذا التغيير، سأشاهد كوب الماء الآخر، وسأرى الأزهر وسأرى صلاة الجمعة والمساجد التى شيدت، وسأرى المدارس الدينية، وأشاهد بقية ليست قليلة من الدين فى مصر، فالإسلام ليس حدوداً فقط، بل هو عقائد وعبادات وشرائع وصلاة ومعاملات، وبلدنا فيها خير كثير، ووطننا ينعم بإيمان وفير، فلماذا لا أحب هذا الوطن؟ ولماذا لا أكره هذا التغيير؟

أما هؤلاء الفقراء المساكين فلهم الله، وعم بدوى وأم عيد الكفيفة وابنتها المسكينة المشلولة فعليهم أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء فهو وحده الذى يستطيع أن يغير وليس هؤلاء الذين تفوق ثروتهم الملايين، والذين يطوفون بلاد العالم، وأولئك الذين يصلهم الدعم بالدولار واليورو بحجة التغيير، وهؤلاء الشباب الذين يجلسون فى وسط البلد وأيديهم تلعب فى لوحة مفاتيح "اللاب توب" وهم يتصورون أن "اللاب توب" سيغير مصير وطن وهم يدخنون الشيشة ويشربون السجائر الملفوفة بالحشيش وبجوارهم البنت الوطنية.

أما أنا فأشهدكم أننى أكثر سعادة، بل أقصد أقل اكتئاباً بعد أن جربت بنفسى وفهمت الحقيقة، وأشهدكم أننى ما عدت أجلس مع هؤلاء، فمن الآن يا أهل بلدى لن تجدونى معهم فأنا الآن أحب النظام الذى يأتى بالفقر وأكره التغيير الذى يأتى بالضلال.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة