فى مثل هذه الأيام من كل عام يهل علينا عيد الأضحى المبارك، وحتى لا يتحول هذا العيد إلى مجرد فرحة الفقراء باللحم وفرحة الأطفال بالخروف، يجب على كل أب وكل أم أن يجمعا أبناءهما ويحكيان لهما قصة الذبح والدروس العظيمة التى نتعلمها منها وهى:
أولا: حكمة الذبح: فقد يسأل البعض لماذا طلب من سيدنا إبراهيم ذبح ابنه إسماعيل؟ وطبعًا الإجابة المعتادة على ذلك السؤال هى، امتحان إيمان كل من سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام وقياس صبرهما واستسلامهما لأمر الله، وهذا صحيح لكن هناك حكمة أخرى قد تغيب عن كثير من الناس وهى أن فكرة ذبح الأبناء وتقديمهم قربان للآلهة كانت عادة منتشرة بصورة كبيرة فى المجتمعات القديمة، وخاصة فى بلاد العراق والشام.
وكثيرًا ما كان الأب يأخذ ابنه إلى معابد الآلهة ويذبحه على المذبح أمام تمثال الإله تقربًا ولقضاء حوائجه، وخاصة عندما تحل بالبلاد نكبات أو أمراض أو مصائب، فأول ما يتبادر إلى الذهن فى ذلك الوقت هو التضحية بأعز ما يملك الإنسان لدفع غضب الإله، وليس أعز على الإنسان من ولده، فيقتله بالذبح أو بالحرق أو بأية وسيلة.
ولقد علم الله سبحانه وتعالى أن ذبح المرء لولده هو أقسى شىء على النفس البشرية، وما خلق الله الخلق ليعذبهم وإن كانوا هم قساة على أنفسهم، فالله أرحم بهم منهم على أنفسهم فأراد الله إبطال هذا النوع من التضحية، فاختار خليله إبراهيم عليه السلام ليكون هو المثال العملى لإبطال هذه العادة، فأمره بذبح ولده ثم افتداه بكبش عظيم فى رسالة من الله إلى أهل الأرض، أن يا ناس يا بشر يا مسلمين لا تذبحوا أبناءكم وإن كنتم لا محالة فاعلين فاذبحوا بدلا ًمنهم كبشًا.
وحتى لا يندثر هذا الأمر على مر الأزمنة ربطه الله تعالى بشعيرة من شعائر الدين الحنيف وهى شعيرة الحج. وقد امتثل العرب لهذا الأمر، وبطلت تمامًا عادة التضحية بالأبناء للآلهة، وحتى عندما نذر عبد المطلب، جد الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يضحى بأحد أبنائه وحاول الوفاء بنذره منعته قريش، وكان فداء عبد الله، والد النبى صلى الله عليه وسلم، بمائة من الإبل.
ثانيًا: إن سيدنا إبراهيم عليه السلام لم ينفرد بالقرار بل أشرك معه ابنه إسماعيل عليه السلام، فعرض عليه القضية أولا ًحين قال: "يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك"، ثم طلب رأيه واستشارته حين قال: "فانظر ماذا ترى".. وهذا درس يجب أن يتعلمه كل أب، فإبراهيم أب ديمقراطى يستشير ولده رغم صغر سنه، فهو ما يزال طفلاً، كما أن هذا الأمر هو أمر إلهى يجب الانصياع له دون مناقشة، فكان من الممكن مثلاً أن يذبحه على حين غرة وهو نائم أو أن يقيده قسرًا ويقول له: "أنا أبوك وهذا أمر إلهى وسوف أقتلك رغمًا عنك"، ولن يلومه أحد إذا فعل ذلك.
ولكن إبراهيم عليه السلام أخذ بمبدأ الشورى والديمقراطية الذى هو من أهم وأسمى مبادئ الإسلام، وهذا يدلنا على أهمية هذا المبدأ العظيم الذى استفاد منه سيدنا إبراهيم نفسه حين أشار عليه سيدنا إسماعيل بأفضل طريقة للذبح فقد قال له: "يا أبتاه لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى عسى أن ترحمنى فلا تجهز علىَّ. اربط يدى إلى رقبتى ثم ضع وجهى للأرض"، فوضعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه.
فذلك قوله تعالى: "وتله للجبين"، أى: أكبه على وجهه، ثم قال له إسماعيل: "إذا أردت ذبحى فاشدد وثاقى لئلا يصيبك شىء من دمى فينقص من أجرى، إن الموت لشديد، ولا آمن أن أضطرب عند الذبح إذا أحسست مس السكين، واشحذ شفرتك حتى تجهز علىَّ سريعًا، وإن أردت أن ترد قميصى على أمى فافعل (مثلما فعل يوسف مع أبيه يعقوب) فعسى أن يكون هذا أسلى لها، فقال إبراهيم: نِعم العون أنت يا بنى على أمر الله.
وكان من نتيجة الشورى أيضًا أن إسماعيل عليه السلام أطاع أباه فلم يقل له مثلاً أنت كاذب ليس من المعقول أن يأمرك الله بهذا. وإننا نفتقد اليوم فى مجتمعاتنا الشورى فالأب ديكتاتور فى البيت مع زوجته وأولاده، والمعلم ديكتاتور فى الفصل مع تلامذته، والمدير ديكتاتور فى العمل مع مرءوسيه، والحاكم ديكتاتور مع شعبه.
إننا نزرع الديكتاتورية فى مجتمعاتنا منذ لحظة الميلاد وحتى الوفاة، وهذا هو سر تخلفنا وانحطاطنا.. فيا كل أب ويا كل أم استمعا إلى أبنائكما وشاوروهما فى الأمر وسوف تريا أنهم سيطيعونكما عن اقتناع وحب.
ثالثاً: إن سيدنا إبراهيم رغم حبه لولده لم يشفق عليه أن يقتله طاعة لله، وأننا اليوم نشفق على أبنائنا أن نوقظهم لصلاة الفجر، وهو أقل شىء يمكن أن نقدمه لله فيجب أن يكون حبنا لله أشد من حبنا لأبنائنا ولأنفسنا.
رابعاً: صلاة العيد هى احتفال بهذه المناسبة السعيدة، مناسبة افتداء الأبناء بدلاً من ذبحهم، وهى فرحة مزدوجة، فرحة الأب بنجاة أبنائه من الذبح وفرحة الفقير بحضور ضيف عزيز على مائدته وهو اللحم المحروم منه طوال العام، وشكراً لله على هذه النعمة.. يقابلنا الله لنتذكر هذه المناسبة ونشكره.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة