حرية الإعلام هى حجر الزاوية فى أى حياة ديمقراطية صحيحة، وهى الأساس الموضوعى لأى تطور أو تقدم تسعى إليه البشرية، ويحلم به الإنسان.. هذه هى قناعتى الشخصية وهذا أيضا مبدأ عام، ولكن يظل السؤال، وهو نفسه المطروح بشأن أى قضايا تتصل بالحريات الشخصية والعامة: عن أى حرية نتحدث؟ هل الحرية يمكن أن - أو ينبغى - أن تكون بلا أى حدود؟ هل الحرية تعنى الفوضى؟ هل حريتى تعنى العدوان على حريات الآخرين والاعتداء على ما يحترمونه من مبادئ أو أفكار؟
حرية الفرد أساسا هى أصل من الأصول الكونية الأزلية، فالإنسان فى بدء الخليقة كان حرا يأتى ما يشاء ويدع ما يشاء.. لا قيود عليه فى ذلك إلا باختياره لما تمليه عليه غريزة حب البقاء.. ولكن مع حاجة البشر إلى الاجتماع والتعاون لتلبية احتياجاتهم والدفاع عن أنفسهم، وتكوين العشائر والقبائل والجماعات البشرية، اقتضى ذلك التزام كل فرد تجاه جماعته والتزام كل جماعة نحو الأخرى.
لذا فضبط أو تقييد حرية الفرد كان من مقتضيات قيام المجتمع مع تشابك المصالح واختلاف الأهواء، وهل لنا أن نتصور أسرة تعيش بلا أى تنظيم للعلاقات بين أفرادها، وبلا أسس أو مبادئ تنظم حياتها!
والحديث عن حرية الإعلام لابد أن يقودنا للحديث عن حرية الفكر، وهى بلا شك مطلقة، وحرية التعبير عن الرأى، أى عندما نرى أنه علينا أن نطرح أفكارنا ورؤيتنا ولا نظل محتفظين بها داخلنا بهدف أن نشرك فيها الآخرين.. وحرية الرأى تعنى أن تكون إرادتنا التى نعبر عنها وليدة رغباتنا وليست وليدة قوى ملزمة تضطرنا أن نفعل ما لسنا نريد أن نفعله.
وتتطلب الحرية أن يكون الفرد مستقلا عن السلطة بقدر المستطاع ليعبر بحرية كاملة عن أفكاره ومعتقداته، بشرط ألا يمثل رأيه تحريضا مباشرا على ارتكاب عمل غير مشروع أو مساس بشخص من الأشخاص وهذا يتطلب من الناحية المثالية:
< إزالة="" العوائق="" أمام="" حرية="" التعبير="" عن="" الرأى،="" وهذه="" العوائق="" ليست="" سياسية="" فقط="" بل="" هى="" أيضا="" -="" وهذا="" قد="" يكون="" الأخطر-="" اقتصادية="" وثقافية="" واجتماعية..="" أليس="" الجهل="" عائقا="" حقيقيا="" أمام="" حرية="" التعبير="" عن="" الرأى؟..="" وماذا="" عن="" الفقر..="" وهل="" لجائع="" أن="" يعبر="" بحرية="" عن="" آرائه="" وهو="" غير="" آمن="" على="" يومه="" أو="">
< الإيمان="" الراسخ="" بالعقل="" وحتمية="" الحوار="" والمناقشة="" دون="" مصادرة="" أو="" اتهام="" للآخرين="" بالكفر="" أو="" الخيانة،="" أو="" غير="" ذلك="" من="" التهم="">
< حق="" الخطأ،="" فلا="" يوجد="" إنسان="" معصوم="" مهما="" كانت="" صفته="" حاكما="" أو="">
< حق="" الاختلاف،="" أى="" التسامح="" والإيمان="" بإمكانية="" التوفيق="" بين="" الآراء="">
وإن كان المشرع قد اتجه إلى وضع ضوابط على ممارسة حرية التعبير عن الرأى فى إطار التقاليد التى تواضع الناس عليها بحيث لا يضر رأيى الآخرين أو يتعارض مع مصلحة المجتمع.. صحيح أن المشرع قد يتجاوز ذلك إلى وضع قيود وعراقيل أمام ممارسة الحرية لمنع الناس من نقد أعمال المسؤولين أو التعليق على تصرفاتهم.. وهذا هو المرفوض.
ويظل السعى للتوفيق بين حرية الفرد فى التعبير عن رأيه وحق الآخرين والمجتمع فى ألا يتعرضوا للأذى بسبب ممارسة هذه الحرية، من الأمور الصعبة التى تواجه المشرع والتشريع.
وفكرة الحرية المطلقة للإعلام هى تجسيد للنظرية الليبرالية التى تعود للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتى ظهرت فى أوروبا فى عصر النهضة، وطبقت أيضا فى الولايات المتحدة الأمريكية لتقوم على التعددية، غير أن هذه النظرية ذاتها خضعت للمراجعات النظرية اعتبارا من العقد الثانى من القرن العشرين، خاصة فى أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وصدر فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947 كتاب للجنة حرية الصحافة بعنوان «صحافة حرة مسؤولة».. وهى صحافة تلتزم بالمعايير المهنية لنقل المعلومات كالحقيقة والدقة والتوازن والموضوعية، تنظم نفسها بشكل ذاتى، تتجنب نشر ما يؤدى إلى انتشار الجريمة والعنف والفوضى الاجتماعية أو توجيه أى إهانات إلى الأقليات، والمسؤولية لا تعنى قيام وسائل الإعلام بدورها فى إعلام الجمهور والمحافظة على خصوصياتهم ومراعاة قيمهم فحسب، بل هناك مسؤولية للجمهور ذاته تجاه ما تقدم هذه الوسائل من مضامين ورسائل إعلامية.. إذ عليه أن يكون مدربا على التعامل معها بصورة تمكنه من إدراك الوقائع،والتمييز بين ما يقدم له من غث أو سمين.. صحيح أن حرية الإعلام لها متطلبات، منها حق الحصول على المعلومات وتبادلها ونشرها دون قيود، وحق الأفراد والجماعات فى إصدار الصحف، وعدم فرض رقابة مسبقة على ما تقدمه وسائل الإعلام إلا فى أضيق نطاق فيما يتصل بالأمن القومى «مع تحديد إطاره ومفهومه بدقة وشفافية» والأمور العسكرية وما يتصل بحرمة الآداب العامة.. ويظل من حق وسائل الإعلام- تأكيدا للحرية- أن تراقب مؤسسات الحكم، وقطاعات المجتمع المختلفة، وحثها على تصحيح أساليب أدائها وممارساتها فى إطار خدمة الصالح العام للمجتمع، والموازنة بين حقوق الأفراد والجماعات فى إطار الحرية والالتزام بقيم المجتمع المقبولة من غالبية أفراده، والحق فى الكرامة واحترام السمعة وحماية الخصوصية.
وفى تجربتنا المصرية منذ صدور أول صحيفة مصرية فى القرن التاسع عشر «الوقائع المصرية» عام 1828، واجهنا العديد من الإشكاليات القانونية والتطبيقية فى ممارسة حرية الصحافة والإعلام، لاسيما بعد الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882، وناضل الصحفيون وغيرهم من رواد التنوير فى وطننا من أجل التأكيد على هذه الحرية نصا وفعلا..
ولا شك أنه قد حدثت نقلة حقيقية فى هذا المجال بعد انتصار أكتوبر 1973، حيث رفعت الرقابة المباشرة عن الصحف فى فبراير 1974، وهى التى استمرت لعقود طويلة تكبل صحافة مصر، وقد تطورت الأمور كثيرا بعد السماح بالتعددية الحزبية وظهور الصحف الحزبية منذ السبعينيات فى القرن الماضى، وإن كان الأمر لم يسلم، حيث وقعت بعض المواجهات والأزمات من جانب السلطة فى مواجهة بعض الصحف المعارضة، وصك الرئيس أنور السادات- رحمه الله- وقتها تعبير «الديمقراطية لها أنياب»، وهو تعبير وإن كان حادا غير أنه يعكس بالفعل أن الحرية تقتضى إحساسا بالمسؤولية الاجتماعية، وشهدنا فى تسعينيات القرن الماضى أيضا السماح بالصحف الخاصة التى تأخذ شكل شركات مساهمة، ورغم أنه لم يحدث تعديل تشريعى حتى الآن فى القانون الذى ينظم عمل الإذاعة والتليفزيون فى مصر، فإنه وفى ضوء المتغيرات السريعة والمتلاحقة التى شهدها المجتمع محليا وإقليميا وعالميا، وبعد الانفتاح الإعلامى غير المسبوق مع ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، صدر قرار من مجلس الوزراء يسمح بالملكية الخاصة للقنوات الفضائية، وتم إنشاء منطقة إعلامية حرة، وبدأت هذه القنوات تبث عبر القمر الصناعى المصرى نايل سات.
وإذا كنا جميعا نعترف بأن مساحة الحرية اتسعت بشكل لم يسبق أن حدث فى تاريخنا المعاصر، خاصة فى العقد الأول من القرن الحالى، غير أننا جميعا استشعرنا بأنه قد بدا للبعض أن من حقه أن يقول ما يشاء دون أى ضوابط، خاصة فى بعض صحفنا وبثنا الفضائى، وأصبحنا أمام سيرك - بكل معنى الكلمة - ما بين إثارة صحفية وإعلامية فجة تعتمد على الجنس والجريمة، ونشر الفضائح، وإشانة السمعة، والاعتداء على شرف الآخرين وأعراضهم، والابتذال، والإسفاف، وعدم احترام أى قيم أو مبادئ.
وما بين إثارة دينية بشعة تهدد الوطن فعلا، وكأننا أمام حرب أهلية طائفية ليس بين المسلمين والمسيحيين فسحب، بل بين طوائف وجماعات داخل جماعة المسلمين والمسيحيين، وغير ذلك.. أصبح كل من هب ودب يدعى أنه إعلامى ويجلس ساعات طويلة - كأنه على المصطبة - يتحدث إلى ملايين المصريين الأبرياء الذين تعانى نسبة كبيرة منهم من الأمية بمختلف أشكالها، أبجدية وثقافية، وأصبح هناك عشرات ممن ادعوا لأنفسهم حق الفتوى.. ونحن شعب بطبيعته متدين، ويتصور أن مشاكله لابد أن يحلها بحل دينى جاهز دون أن يحاول أن يُعْمل عقله أو يفكر بشكل علمى أو يسعى للاجتهاد، وانتشرت بعض القنوات التى تروج للشعوذة والدجل، وكان لابد لنا كمجتمع من وقفة صادقة للمراجعة.. لنكن صادقين مع أنفسنا.. مخلصين ولو لمرة واحدة فى النظرة لمصلحة وطننا أولا وقبل كل شىء، ونميز بوضوح بين حرية ينبغى أن نكفلها ونضع ضمانات لها ونحميها وندفع عنها ونناضل من أجلها، كما فعل الشرفاء من المفكرين والمصلحين عبر تاريخنا، وإذا كان لنا أن نناقش ما تم اتخاذه مؤخرا من إجراءات، فإننى أرى أن علينا أن نميز فى هذا الإطار بين إغلاق نافذة إعلامية تحقق التعددية والتنوع، وهذا أمر أكرهه وأرفضه، وبين إغلاق منابر حقيقية لرأى حر ومسؤول، غير أننى أمام الشاشة بالساعات فى مسابقات ساذجة وتعارف بين المشاهدين بشكل يثير الريبة.. هل هذه هى حرية الإعلام الذى ينبغى لنا أن نتباكى عليها؟.. لا أعتقد، فهذه مغالطة ينبغى أن نتوقف عنها حرصا على الوطن وحماية لشبابه وأبنائه.
إننى أؤمن أن أخطاء الحرية بالفعل لا يتم علاجها إلا بمزيد من الحرية.. ولكن عن أى حرية نتحدث؟ لقد آن الوقت فعلا لكى تتحرك الصحف والشبكات أو القنوات التليفزيونية المحترمة التى تستهدف فعلا تحقيق رسالتها الإعلامية فى التنوير والتغيير- وهذا لا يمنع أن تسعى لتحقيق ربح يسمح لها بالاستمرارية والتطوير - وتتفق معا على شكل من أشكال التنظيم الذاتى من خلال مواثيق شرف اختيارية لمهنة سامية محترمة، وأن تتحرك مؤسسات المجتمع المدنى لإقامة مراصد لحماية جمهور وسائل الإعلام، وحماية دورها كجماعة ضغط شعبية فى مواجهة هذه الممارسات غير المسؤولة حتى لا تتحول وسائل الإعلام إلى أداة هدم، أو معول لتدمير قيم وأسس مجتمع.
نقلاً عن ملف إن للديمقراطية أنياباً المنشور فى العدد الأسبوعى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة