أتذكر يومًا لا أنساه فى حياتى، لعله اليوم الوحيد فى عمرى الذى مرت فيه هذه الأحداث ولم تتكرر حتى الآن، كان بودى أن يكون هذا اليوم هو عيد ميلادى لولا أننى -للأسف- لست من مواليد هذا اليوم، أحداث هذا اليوم ستظل مغروسة فى ذاكرتى مثل الشجرة الطيبة عميقة الجذور لا تشيب مع الأيام وإن شبت أنا.. هذا اليوم كان يوم انتخابات مجلس الشعب 2005، حيث كانت محافظتى فى المرحلة الثانية منها وكنت مندوبًا لأحد المرشحين، حضرت لمقر اللجنة بالمدرسة الابتدائية فى قريتنا فى الصباح الباكر، وجدت القاضى مع اثنين من مساعديه، أعطيته التوكيل الذى معى قام بالتأكد منه ومن التوكيل الآخر لمندوب آخر ثم تلا علينا تعليمات اللجنة ثم أمرنى والمندوب الآخر بالإدلاء بأصواتنا أولاً ثم قام بفتح اللجنة لاستقبال الناخبين فى هدوء تام وشفافية أنقى من ماء السماء، كان القاضى يتأكد بنفسه من بطاقات الناخبين وإذا وجد ناخبًا أميًا لا يكتب ولا يقرأ يطلب بصمته ويقوم هو أو أحد مساعديه من الموظفين المدنيين بالانتخاب له خلف الستارة بعد سؤاله عن الرمز الذى يريده، فى الثانية ظهرًا جاء ممثل عن أحد المرشحين بوجبة غداء للمندوب الآخر الذى معى وعرض على القاضى وجبات له وللمساعدين فرفض رفضاً مطلقاً وفتح حقيبة كانت معه أخرج منا بعض سندوتشات الجبنة وأكل وأعطى للمساعدين، بعدها دخل الحجرة أربعة من ضباط المباحث عرفوا أنفسهم للقاضى وسألوه عن أى شىء يحتاجه فشكرهم وانصرفوا، فى الساعة الرابعة عصراً استأذنت منه للذهاب لدورة المياه فقال لى، هل أغلق اللجنة حتى تعود؟ فرددت عليه: سيادتك آمن منى على اللجنة والعدالة وعدت واستمر اليوم الجميل وأنا أشعر بأننى فى أعرق مكان يمارس النزاهة ويطبق الشفافية بكامل معاييرها وكم كنت أتمنى أن توجد قناة تليفزيونية أو مندوب صحيفة لأعبر لهم عن مشاعرى الصادقة تجاه العرس الديمقراطى الذى أشاهده منذ الصباح، غير أن دائرتنا لم تكن من الدوائر التى تجذب وسائل الإعلام لعدم وجود شخصية قطرية بين المرشحين، أنا سعيد الحظ أن كنت مندوباً لمرشح حتى أعيش هذا اليوم الجميل، كان بودى أن أشكر بطريقة علنية الرئيس مبارك، وزارة العدل، ووزارة الداخلية على المتعة التى عشتها حتى النهاية، فى الخامسة مساءً حضر محام أعرفه وقدم نفسه للقاضى على أنه مندوب لمنظمة حقوق الإنسان المصرية فرحب به القاضى، فسأل القاضى عن أعداد الناخبين فأجابه القاضى: هذا ليس من اختصاصك وإنما لك أن تسأل هل حدث أى تجاوز أثناء التصويت؟ وتوجه القاضى إلى وإلى المندوب الآخر بمضمون السؤال فأجبنا بالنفى القاطع فانصرف الرجل شاكراً.. أُغلق الصندوق الشفاف بالشمع واصطحبنا القاضى مع الصندوق إلى اللجنة العامة حيث ستتم علمية الفرز.. وبوجودى والمندوب الآخر فُضت الأختام، قام القاضى بعد الأوراق ثم قام بفرزها وعد أصوات كل مرشح والأصوات غيرالصحيحة وقام بإعادة هذه العملية ونحن نراقب أربع مرات - أى والله أربع مرًات - ثم حرر محضر الفرز والغلق ثم ذهب بالنتيجة والصندوق إلى المستشار رئيس اللجنة العامة للدائرة وجلست أنا أنتظر حتى طلوع الفجر لتعلن النتيجة بالإعادة بين أربعة مرشحين من ستة عشر مرشحًا فى دائرتنا.. عدت لمنزلى قلت لنفسى أخاف أن أنام حتى لا أستيقظ من هذه الحقيقة الجميلة أو هذا الحلم الجميل، وجعلت أردد فى نفسى عما قريب سننافس اليابان، عما قريب ستصبح مصر دولة عظمى، كل تقدم مرهون بالحرية والنزاهة وها قد عشتها رأيتها بأم عينى على أرض قرية من قرية مصر وجعلت أردد هذا البيت الجميل لعزيز أباظة الذى قاله فى السد العالى:
قد كان حلماً فخاطراً فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا!.
هذا الحلم – للأسف - لم يستمر طويلا ! لأن الذين تعودوا أن يحرمونا حتى من الحلم قاموا بتعديل الدستور وإلغاء الإشراف القضائى لأرى وفى نفس المكان وبعد أقل من عام كابوس شورى 2006، الذى لن تغادر أشباحه مخيلتى أيضًا .. كنت مندوبًا لمرشح مستقل أيضًا، تم إخراجى من اللجنة بالقوة بعد 15 دقيقة من دخولى اللجنة فى الصباح وقفت فى فناء المدرسة، طلب مندوبًا مرشحًا من الحزب المعروف من أحد الضباط إخراج الناس من المدرسة "حتى تتم الطبخة " فقال هذا الضابط لا سامحه الله - والله شهيد على كلامى- : "أنت عارفنى، اللى مش هيخرج بالذوق هيخرج والجزمة على دماغه "! فخرجت ومن معى خارج المدرسة فى الشارع فى منتهى الذهول لنفاجأ بسيارة ميكروباص مدنية تقف على باب المدرسة وينزل منها بعض أفراد الشرطة بزى مدنى لينهالوا علينا ضربًا ويمسكوا من قدروا عليه، أما أنا فلذت بالفرار لأعود لبيتى باكيًا فى منتهى الحسرة والصدمة على هذا الكابوس المفزع الذى أعقب ذلك الحلم الجميل لأغير فى بيت عزيز أباظة:
قد كان حلما فخاطرا فاحتمالا ثم أضحى سرابا أو خيالا
وحظ أولادك يا مصر إن مبتعش لهم انتخابات حرة، لتبقى مصر من دول العالم الثالث مع إنها والله تستحق أن تكون سيدة الدنيا بلا منازع وأدينا منتظرين نسخة 2010، والأمر أمرك يا رب!!!!!!
صورة ارشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة