نرمين كحيلة تكتب: يوم لا يُنسَى

السبت، 20 نوفمبر 2010 04:35 م
نرمين كحيلة تكتب: يوم لا يُنسَى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً.. توقفت سيارة بيضاء كبيرة أمام منزل صغير بأحد الأحياء الشعبية الفقيرة..نزل منها رجل تبدو عليه أمارات الترف والفخفخة، فقد كان يرتدى بذلة غالية الثمن، ونظارة مرصعة بفصوص لامعة جميلة، وبيده ساعة ذهبية قيمة تضوى بانعكاسات مبهرة، وفوق شفتيه شارب كبير خطه الزمن على وجهه ذى التجاعيد الكثيرة، تقدم فى خطوات ثابتة تجاه هذا المنزل المتواضع، ووقف أمامه برهة ناظرًا إليه فى تفحيص وتمحيص كأنه يستعيد ذكريات ماضٍ أليم.

سأل سيدة كانت تنظر من إحدى شرفات هذا المنزل عن شقة الحاجة علية فأخبرته أنها بالدور الثالث شقة 6، صعد الرجل درجات السلم فى تأفف وضيق، فهذا المكان لا يليق به كرجل أعمال مشهور صاحب الملايين، ولكنه تحامل على نفسه كى يؤدى المهمة التى جاء من أجلها.. أخيرًا وصل إلى الشقة المطلوبة، ووقف أمامها لحظة تتراجع خطواته إلى الوراء فى تردد، وسأل نفسه سرًا: يا ترى بعد كل هذه السنين كيف سيقابلوننى؟ وأخيرًا تشجع وطرق الباب فإذا بفتاة تبدو فى السابعة من عمرها تقف أمامه.. نظرت إليه نظرة فاحصة من رأسه إلى أخمص قدميه وهى مشدوهة، فكيف يأتى إلى منزلهم المتواضع شخص كهذا، وظنت أنه أخطأ العنوان ثم أفاقت من دهشتها وارتسمت على وجهها ابتسامة عذبة رقيقة وقالت له: من أنت يا سيدى وماذا تريد؟ لابد أنك أخطأت العنوان! فقال لها: ألا تعرفيننى يا حبيبتى؟!! قالت: معذرة يا سيدى ربما أعرفك ولكنى لا أتذكرك.

وكانت أختها فريدة بالداخل تسمع تحاورهما ولم يكن صوت الرجل غريبًا عليها، فأسرعت نحو الباب إلى حيث يقف الرجل لترى من الطارق، ونظرت إليه هنيهة تكاد عيناها تبرز من مآقيها من الدهشة، ثم مسحت عينيها غير مصدقة لما تراه، وتذكرت أباها، تذكرت الأيام التى قضتها معه كأنها سحابات سرعان ما اختفت بعد أن غشاها الضباب وكدر صفو السماء ثم قالت: أبى!

وتسمرت قدما الفتاة بالأرض لا تعرف كيف تفعل، هل تسلم عليه وتصافحه أم تعانقه أم ماذا؟ فهى لم تعتد مثل هذه المواقف، وقد أربكتها الدهشة.. وتقدم إليها أبوها وعانقها وضمها إلى صدره فى رفق وحنان..آه، لقد ظلت طوال عمرها الذى لم يتعد العاشرة تحلم بتلك اللحظة وتنتظرها.. لحظة أن يضمها أبوها إلى صدره كما يفعل أى أب مع أبنائه.. كانت ترى رفاقها بالمدرسة وقد أتى كل منهم إلى ابنته بالهدايا والحلوى.. حتى العصفور فى عشه كان أسعد حظاً منها، كم تمنت أن تكون مكانه لأن له أبا يحنو عليه.

كانت تتمنى أن تطول تلك اللحظة بعد السنوات التى حرمت منها دفء هذه الأحضان الحانية، كانت تريد أن تقول له كلامًا كثيرًا لكن لسانها توقف عن الكلام ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة كأن لسانها قد شد بسلاسل من حديد.. لم تتكلم الفتاة بل أطلقت العنان لنظراتها لتنم عما بداخلها من حرمان ووحشة واشتياق، وفجأة اكتشف الجميع أنهم ما يزالون واقفين على الباب فقالت فريدة: معذرة يا أبى تفضل بالجلوس.

جلس الأب على مقعد فراشه ليس بوثير، ونظر إلى البيت يرمقه بعينين دامعتين، كانت جدرانه مشققة عارية من أى زخرف، وسقفه بالٍ، والأرض لا يكسوها سوى نوع ردىء من السجاد الرخيص.. وزاغ ببصره على صورة أدمت فؤاده كانت معلقة على أحد الجدران.. صورة أب يحتضن أبناءه فشعر ببشاعة الجرم الذى ارتكبه فى حق ابنتيه اللتين أصبحتا فى عداد الأيتام وأبوهما مازال على قيد الحياة منعم بملذاتها، فلقد صدق الشاعر حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو من تلقى له أمًا تخلت أو أبًا مشغولاً

ثم وضع الأب ساقه اليمنى فوق اليسرى، وأخرج علبة كبيرة من جيبه أخرج منها غليونًا باهظ الثمن، وطفق يشعلها وينظر إليها طويلاً قبل أن يضعها فى فمه كأنه يرى فؤاده وهو يشتعل أمامه حتى يطهره من قساوة ورجس الماضى البغيض.. وبدأ الأب يتكلم ويسأل عن أخبارهما وفى أى سنة دراسية هما، ثم طلب منهما أن يتأهبا كى يخرجا معه للعشاء.

طارت الفتاتان من الفرح والسرور لطلب الأب ودق قلب فريدة دقات عالية سريعة حتى كادت أن تسمعها كأنها دقات طبول تريد أن تعلن أن اليوم هو يوم عيد. لقد آن الأوان لكى تطوى صفحات الشقاء والتعاسة لتبدأ لحظات السعادة والهناء وعندما نزلت الفتاتان وجدتا سيارة كبيرة وجميلة.. فتحت باب السيارة فى فرح غامر تريد أن تعلن للناس كافة أن هذا هو أبوها.

أخيرًا توقفت السيارة أمام مطعم فاخر ونزل الجميع وولوا وجوههم شطر المطعم.. كانت هناك قاعة واسعة ارتصت بها موائد عديدة جلس إليها كثيرون بوجوه حمراء موردة وملابس أنيقة. ودخل الأب متقدمهم إلى الأمام ومن خلفه ابنتاه تحتثيان خطواته فى ارتباك من لم يعتد ارتياد هذه الأماكن.. وكان الخجل يرتسم على وجه فريدة، ووقع الاختيار على مائدة مستديرة كانت تتوسط الموائد وأحست فريدة أن الناس تنظر إليها تريد أن تهنئها على ظهور أبيها الجديد ونظرت إليهم كما لو كانت تتلقى التهانى منهم.. وبدأت موسيقى عذبة الألحان تعزف والأنوار الخافتة من حولها وأحست بنشوة غريبة لم تشعر بها من قبل وشعرت كما لو كان الناس من حولها والموسيقى والأنوار يشاركونها فرحتها بعودة أبيها ويحتفلون معها بتلك المناسبة السعيدة.. وما هى إلا دقائق قليلة حتى أتى النادل (الجرسون) يسألهما فى انحناءة تنم عن أدب جم عن طلباتهم من مأكولات ومشروبات، وأدخل الأب يده فى جيبه خاوية وأخرجها وهى ممتلئة بستين جنيهًا ثمن العشاء وعشرة أخرى للجرسون كما أعطى كل بنت من بناته مائة جنيه، فقالت له فريدة: لا يا أبى لا أريد نقودًا إن أموال العالم جميعًا لا تعوضنى عن لحظة واحدة أقضيها معك..أرجوك لا تتركنا يا أبى..هل تعدنى بذلك؟ قال الأب وهو يمسح على شعرها: نعم أعدك يا بنيتى.. ثم قال: لقد كنت مخطئًا عندما تركتكما وانسحبت من حياتكما، لكننى لن أترككما بعد اليوم.

وغادر الجميع المكان إلى منزل الفتاتين المتواضع بعد أن وعدهما الأب أن يأخذهما معه إلى شقته بعد بضعة أيام.

وكانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل ودخلت الفتاتان حجرتهما وارتمت كل واحدة على سريرها تفكر فيما حدث تلك الليلة وتتقلب فى فراشها يهرب النوم من جفونها بعد أن حلت مكانه الفرحة..حقًا إنه يوم لا ينسى.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة