منذ اللحظة الأولى التى عرفت معها أن التليفزيون المصرى سيطلق القناة الثقافية وقناة التنوير، اكتشفت المؤامرة المدبر لها بإتقان ضد الثقافة بشكل عام، ذلك لأن الهدف كان أوضح وأقرب من أن يغيب عن خاطر عشاق الثقافة بمعناها الصحيح، وهو ألا تكون واحة فى الصحراء وإنما يتعين أن تكون نشاطا إنسانيا ملتحما مع كل الأنشطة ومضيئا لها وينبع من قلبها.
هكذا أخرج التليفزيون كل البرامج الثقافية من القنوات المختلفة وألقى بها ضمن حزمة من القنوات التى سماها متخصصة، وهى فى الحقيقة غير متخصصة على أى نحو، وإذا كان التليفزيون قد أنشأ ضمن الحزمة المتخصصة قناة للرياضة، فالرياضة تصول وتجول فى كل القنوات الأرضية والسماوية، وإذا كان قد أسس قناة للدراما فالتليفزيون كله دراما، وإذا كان قد خصص قناة للمنوعات فكل التليفزيون فى الأساس منوعات القناة الوحيدة التى خرجت من التليفزيون الأرضى ولم تدخل ضمن القنوات المتخصصة – إلا بالاسم فقط - هى قناة النيل الثقافية، حيث انعزلت تماما لا عن التليفزيون والجمهور فقط بل عن الثقافة ذاتها، تمهيدا لإلقائها فى النيل، وهذا هو المعنى المقصود بقناة النيل.
ظلت القناة الثقافية تنهض وتسقط، تعلو وتهبط دون أن يعبأ بها أحد، وفى غالب الأحيان كانت ولا تزال بلا سياسة ولا فلسفة ولا خطط ولا كوادر قيادية صاحبة فكر ورؤية وسلطة واعتمادات وصلاحيات، ووصل بها الحال - فى ظل التآمر والقصدية - إلى حالة أقرب إلى العشوائية منها إلى العلم والإدارة والفن والثقافة، فليس ثمة برامج عن الموسيقى وأصولها وأعلامها فى مصر والعالم، وليس هناك برامج عن أصول الأدب بأجناسه المختلفة ولا تاريخه وأعلامه البارزين فى مصر والعالم العربى والعالم، ولا توجد أدنى إشارة للفن التشكيلى ومدارسه وأعلامه.. فهل توجد برامج لمناقشة أهم القضايا الفنية والتاريخية والسياسية والفكرية؟.
فهل هناك متابعة دقيقة وعميقة لأهم الكتب التى أخرجتها المطابع عبر قرون مثلت مجمل الفكر البشرى وأهم محطاته المؤثرة على مسيرته؟.. بالطبع لا شىء من هذا ولا من ذاك.
السبب واضح وبسيط هو أن المسئولين عقدوا العزم على التخلص من قناة النيل الثقافية بعد أن تخلصوا من قناة التنوير التى تأخر تخلصهم منها إلى ما بعد خروج رئيسها الشاعر ماجد يوسف، فى إشارة غير مقصودة وهى للأسف حقيقة أن كل ما يتم فى مصر لأسباب شخصية.
لقد تأجل التخلص من قناة النيل الثقافية إلى حين التخلص من جمال الشاعر ولو بترقيته إلى الفضائية، وبدلا من إلغائها مباشرة قرروا أن يتركوها بلا ماء حتى تذبل وتتحلل.. انصرفوا عنها يزينون ويجملون فى الدراما والسينما والمنوعات (لايف) والرياضة وكلها قنوات لا يوجد مبرر واحد للإبقاء عليها، إن هى إلا سبوبة مثل أمور ومشروعات كثيرة فى مصر.
وهكذا تركوها للفراغ والفقر والضياع حيث استمر المخطط ذاته الذى استخدمته الحكومة الانفتاحية مع شركات ومصانع القطاع العام بإهمالها تماما وتجاهل مطالبها وصيانتها والسماح لفاشلين بقيادتها كى تخسر وتتفكك وتفقد القدرة على الحركة، ومن ثم يقولون بكل ثقة: سامحونا.. ليس أمامنا إزاء الحالة المتردية إلا البيع.
ورغم أن بالقناة عددا من المخرجين والمذيعين والمعدين المهرة والموهوبين فقد قررت فصل الكهرباء عنهم وتركهم بلا أى دعم أو رؤية ولا خطط أو برامج، ويتوالى مع كل يوم نتف ريشها ووقف حالها، فيضطر القائمون على أمرها إلى بث الأفلام والأغانى والبرامج المسجلة فى مشهد يدعو إلى الإشفاق والرثاء والأسى لما آل إليه الوضع فى القناة التى تخضع لمؤامرة مؤكدة منذ البداية وحتى اكتمال غرقها.
هذا هو إذن حال الثقافة (البطة السوداء) فى التليفزيون المصرى حيث لا يتسع المجال إلا للرقص والكرة والنكت والتفاهة والعرى والتجاوزات التى تمارس هوايتها فى تسطيح العقول عبر شخصيات مسنودة.
سقط القناع وانكشف الوجه الحقيقى لموقف الدولة من الثقافة، ولو كان هناك أى رغبة فى الإبقاء عليها بوصفها قاطرة التنمية والحضارة وتغذية العقول والارتقاء بالأحاسيس وخلق مواطن عصرى يدرك أهمية القيم العليا وحب الجمال واحترام الآخر وقبول الاختلاف والتسامح وعشق الإنسان والحياة، لاهتمت إدارة التليفزيون، واختارت فى البداية عددا من كبار المثقفين مثل محمد سلماوى وفاروق جويدة وجابر عصفور وحجازى ومصطفى حسين وأشرف ذكى وصابر عرب وصلاح عيسى ومراد وهبة وبهاء طاهر وجمال الغيطانى وجاب الله على جاب الله وفاروق شوشة ووحيد حامد وغيرهم كثيرون وذلك لوضع السياسات والخطط ومراقبة الأداء.
البعض تأخر كثيرا حتى أدرك أن التليفزيون يدين بدين جوبلز الذى قال: كلما سمعت كلمة ثقافة أسرعت بتحسس مسدسى، فهل يستطيع التليفزيون إذا كان من بين مسئوليه من يقرأ أن يثبت للناس خطأ ما ذهبنا إليه؟.. ليته لا يفعل هذا بالكلام والرد والتصريحات التى تماثل قول أحدهم: لقد حقق التليفزيون فى رمضان مشاهدة رائعة!.