معصوم مرزوق

المبنى للمجهول

الجمعة، 19 نوفمبر 2010 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هو مجهول بغير شك، ولا يمكن تعريف غير المعرف، وإن كان يمكن دائماً الاستنباط والاستدلال والحدس، وهى وسائل – بطبيعتها – غير يقينية وافتراضية وقد تؤدى إلى استنتاجات خاطئة.. إلى هذا الحد يبدو الكلام– كما أظن– منطقياً ومفهوماً..

المشكلة هى فى المعلوم المجهل، الواضح وضوح الشمس والذى لا تراه العيون، وهو معلوم بالضرورة ولكن يتم تجهيله إما بالعمد أو بالتقية أو بالجهل، فهو بالعمد يمكن الإغماء عنه تضليلاً، أو تشويهاً، أو جبراً وقهراً، وهو بالتقية تجاهل محسوب لتفادى ما يلزمه المعلوم من سلوك أو الامتناع عن سلوك، وهو بالجهل لا يعد معلوماً فى الأساس، لدى من عميت أبصارهم وبصائرهم، أو تضاءلت وانعدمت حظوظهم من حدود المعرفة الدنيا..

أنت تجهل ما بعد الموت، وبالتالى لا يمكن لأحد أن يعرفه تعريفاً جامعاً مانعاً، ولكن يمكن من خلال النصوص المقدسة استنباط بعض جوانبه، وذلك بالطبع لا يمكن الاعتداد به بشكل علمى كتعريف، فكل ما لا يمكن خضوعه لوسيلة أمبيريقية لا يمكن الاطمئنان إلى تعريفه المستند بشكل كامل إلى فرضيات نظرية يصعب أو يستحيل اختبارها، فلم يعد أحد من الموت كى يحدثنا عنه، ولم يصل العلم بعد إلى الوسائل التى تمكنه من ذلك..

الفساد والتخلف وغيره من الظواهر المجتمعية، معلوم بدرجات مختلفة لدى الكافة، ولكنك تجد من يتعمد تجهيله بالحديث مثلاً عن الفساد فى المطلق، دون وضع الحروف فوق النقاط، أو من يجهله بالتقية بحيث يسند المعلوم إلى مجهول، كمن يشير إلى معاناة المجتمع من التخلف دون أن ينسب هذا التخلف إلى أسبابه، وكأن التخلف صفة وراثية أو مرض لا يعرف أحد الفيروس المسبب له، وهناك من يجهل هذا الفساد والتخلف بتشويه هذا المعلوم عن طريق اعتباره قضاء ًإلهياً ينبغى التسليم به، وعدم ارتكاب معصية بحث أسبابه وتداعياته، ويتم تشويه المعلوم أيضاً بالحديث مثلاً عن انتشار هذه الظواهر فى العالم كله وأنها غير مختصة بهذا المجتمع على وجه الخصوص، وإذا فشلت كل وسائل التجهيل السابقة، لمن له المصلحة فى ذلك، فإن أسلوب الجبر والقهر يبقى دائماً وسيلة احتياطية جاهزة للاستخدام لنفى المعلوم، ومن يدعى العلم معه..

وفى الأغلب الأعم تجرى عملية تجهيل المعلوم باستخدام التقية، فهناك من يرى الفساد والتخلف ولكنه يتحاشى مجرد الإشارة إليه حتى لا يتعرض إلى معلوم آخر لديه وهو القهر، لذلك فهو يلجأ للرمز أو إسناد هذه الظواهر إلى المجهول، كمن يعلم أن رجلاً بلطجياً فى غرفة نومه يرقد فوق فراشه مع زوجته، فيدعى أنه لا يسمع الأصوات الصادرة من حجرة النوم، ويقنع الآخرين بأن زوجته خارج المنزل، أو ينزع عن البلطجى سمة البلطجة، أو يغادر المنزل فلا يرى أو يسمع، وهو فى كل الأحوال يلعن الزنا والزناة، ويدعو الله ليل نهار بأن يخرب بيوتهم ولا يقبل توبتهم..

يعلمون الفتيات منذ نعومة أظافرهن ألا يفشين أسرار بيوتهن، وأن يدارين على الشمعة كى تضئ، فإذا اشتكت واحدة من بربرية زوجها أو استعباده لها، سارعوا بتجهيل ذلك المعلوم، عمداً وتقية وجهلاً، فعلى الزوجة طاعة زوجها، وهى دائماً "أمينة" فى الثلاثية الرائعة لنجيب محفوظ، وهو "سى السيد"، ثم أن مواجهة الزوج قد تؤدى إلى طلاق الفتاة وعودتها إلى منزل أسرتها، لذلك تتقى الأسرة هذه النتيجة بالانصياع إلى الوسيلة الأسهل وهو تجهيل المعلوم تقية، فالزوج لم يكن على هذه الدرجة من القسوة، أو أن الفتاة دلوعة لا يعتد بشكواها، وفى الأغلب الأعم والأغم لا تنصت الأسرة للفتاة وتأمرها بالعودة على الفور إلى بيت زوجها وسيدها طائعة مقهورة، رغم أنهم فى قرارة أنفسهم يعلمون، ولكنه ذلك النوع من المعلوم الذى يضيفونه إلى المجهول..

كان العالم كله يعلم توجهات هتلر التوسعية والوحشية منذ بداية ظهوره فى الساحة السياسية الألمانية، بل إنه لم يخف شيئاً ولم يترك شيئاً للمصادفة فقد وضع فى كتابه الشهير "كفاحى" كل خطته بتفصيل واضح، ومع ذلك هرول إليه قادة أوروبا متهالكين ليعقدوا معه صلح ميونيخ، بل إنهم أغمضوا عيونهم، عن معلوم التهامه للنمسا وتشيكوسلوفاكيا، عمداً وتقية، ودفعت البشرية كلها ثمناً باهظاً نتيجة لذلك التجهيل لمعلوم واضح وضوح الشمس منذ اللحظة الأولى، ولو تمت مواجهته مبكراً لربما تغير وجه التاريخ..

وقد لا يكفى هذا المقال أو حتى كتاب لسرد أمثلة تؤكد هذه الحقيقة، التى هى معلوم آخر لدى الكافة يتم تجهيلها، ولعل العديد من السادة القراء يتذكرون الأخ دونالد رامسفيلد وزير الدفاع فى إدارة بوش الصغير، حين قال بحكمة، "هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها".. إنه استخدام جيد للبيان كوسيلة لتجهيل المعلوم، فلا شك أن ما حدث فى سجن "أبو غريب" مثلاً معروف ومعرف ومحدد بشكل نافى للجهل أو للتجهيل، ولكن الإدارة الأمريكية عمدت أولاً إلى نفى ذلك، ثم ثانياً إلى إسناد ذلك إلى سلوك غير مقبول من حفنة بسيطة من الجنود، ثم خرج علينا السيد رامسفيلد بتلك الشبكة العنكبوتية من تعريف المعرفة، بينما المعلوم الذى تم تجهيله بشكل منهجى هو أن تلك كانت سياسة الإدارة سواء فى أبو غريب أو فى جوانتانمو أو غيرها..

الجبر والقهر يدفعان الناس للتقية، وآية التقية هى التمويه على المعلوم، وأسلوبه المضمون هو استخدام المبنى للمجهول، فلقد مات القتيل وتعفنت الجثة ولكن القاتل "المعلوم" مجهول، لقد خرب الزرع والضرع وفسدت الذمم، ولكن ذلك ليس منسوباً لأسماء الفاعلين، وإنما لذلك المجهول المعلوم، أو المعلوم الذى يتم تجهيله..

والمعلوم قطعاً من التاريخ البشرى يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المجتمعات تبدأ أولى خطواتها فى التقدم حين تكسر قشرة الجهل والتجهيل عن المعلوم، حين تعرف أنها تمتلك إرادة الفعل والتغيير، إلا أنه حتى هذا المعلوم التاريخى يتم التمويه عليه عمداً، بالتضليل والتشويه أو بالجبر والقهر من أصحاب المصلحة فى ذلك، أو بالتقية من أولئك الذين يغضون الطرف عن تزوير وتشويه هذا المعلوم التاريخى الثابت، ويكون الجاهلون ضحية الطرفين..

لقد كان أهل مكة من المشركين يتوهمون أنهم يعبدون الله، أى أنهم كانوا يعلمون بوجوده استنباطاً واستدلالاً يصل إلى حد اليقين، ولكنهم مع ذلك تصدوا بقسوة وعنف مع ذلك المعلوم، وآثروا التجهيل عليه، وقد واجههم القرآن والرسول وأصحابه بالإصرار على إبراز هذا المعلوم والتأكيد عليه، وليس باستخدام منهج التقية والبناء للمجهول، لذلك انتصرت الرسالة المحمدية فى النهاية..

وربما يتساءل القارئ العزيز عن الهدف من كتابة هذا المقال، وأتصور أن الإجابة لن تختلف عن إجابة رامسفيلد، "هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها".. مع إضافة قدر كبير من الإجابة للمبنى للمجهول..





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة