"دفع حب المغامرة والاستكشاف الطفل (لويس) إلى اقتحام ورشة أبيه المليئة بالأدوات الحادة، رغم تحذيرات الأب المتكررة وما لبث أن حدث ما كان يتخوف منه، فقد وقع حادث للصغير أفقده البصر، وغرق لويس – طفل الثلاث سنوات - فى بحر من الظلام الدامس إلى الأبد.. وكان لويس طفلاً رائعاً يغرى أى شخص بتدليله، خاصة بعد أن فقد البصر، ورغم أن والديه كان يدمى قلبهما من رؤيته ضريراً، فقد كان لهما رأى آخر، ففى هذا الزمن كان فاقدو البصر ينتهى بهم الحال إلى الشحاذة والنوم فى الطرقات.. ولذا فقد أخذا على عاتقهما مهمة تنشئته مثل أى طفل طبيعى فى سنه – قدر المستطاع- فتعلم لويس الاعتماد على نفسه وارتداء ملابسه وحده وترتيب حجرته والمساعدة فى إعداد مائدة الطعام، بل وجلب مياه للأسرة من البئر.. فقد رأى الوالدان أن اعتماده على نفسه هو سلاحه الوحيد ضد ما يضمره له الزمن".
ويستوقفنى هنا استقلالية الوالدين الفكرية وعدم انسياقهما "وراء القطيع" أو فقدان الأمل رغم الظروف القاسية والدامية والتى كانت كفيله بدفع أى مخلوق للإحباط والاكتئاب، بل ونقلهما فلسفتهما ورؤيتهما إلى الطفل الصغير الذى ما لبث أن استخدم موهبتى الذكاء والاستكشاف، اللتين أفقدتاه بصره فى ترويض عاهته الجسدية، بل واستخدمهما فى الاختراع والابتكار.
إنها قصة "لويس برايل"، الذى قدم للإنسانية خدمة رائعة فباختراعه طريقة كتابة لفاقدى البصر انتشل الملايين من الظلام وزرع عندهم قوة الإرادة والتصميم على التعلم والقراءة.
وهناك غيره الكثير ممن امتحنتهم الأقدار بمرض أو عاهة وخاضوا معارك شرسة مع المرض وقهروا إعاقتهم وتمتعوا بحياة مستقرة مع أسرهم.
دائماً ما تحضرنى هذه القصص وأنا أرى العشرات من مرضى القلب والمصابين بتصلب الشرايين وذوى الضغط المرتفع – يصابون بمضاعفات خطيرة فى القلب والمخ لإهمالهم تناول الأدوية فى مواعيدها وغيرهم ممن يدخن بشراهة ويستهتر بنظام الأكل الصحى للقلب - ملقين كل اللوم على الأوضاع الاقتصادية الطاحنة وفشل الدولة فى توفير أسباب العيش الكريم.
والحقيقة أننا إذا انتظرنا من ينتشلنا من تدنى الأوضاع ويحسن الأحوال المعيشية ويخفض أسعار السلع، فقد ننتظر إلى الأبد - وقد نهلك قبل أن نشهد أى تحسن ملموس- بل نحن فى احتياج حقيقى لمن ينتشلنا من أنفسنا - إن التغيير هو ما نهاب – تغيير السلوكيات والمفاهيم غير الصحية.
ومن الناحية الاقتصادية تخبرنا الحقائق أن ارتفاع أسعار سلعة ما – لا يعنى أنها مفيدة صحيا- والعكس صحيح.. فالبقول الزهيدة الثمن على سبيل المثال أصح وأفيد للقلب من أفخر أنواع اللحوم والبط والجمبرى وأبهظها ثمناً.
وفى أفقر الدول يعيش سكان جنوب شرق آسيا على السلع الرخيصة مثل الأسماك والكثير من الخضروات والفاكهة، وهى وجبة مثالية لصحة القلب والشرايين التاجية، كما أن الطعام الصينى يكاد يخلو من السمن والزبد.
إن ما يقرب من ربع أبناء هذا الوطن يجهل القراءة والكتابة والكثير منهم يعانى الأمرين من المرض وضيق ذات اليد.. ولذا فهناك مسئولية مشتركة تقع على عاتق وسائل الإعلام والأطباء والقائمين على الصحة بمصر فى تعريف كل مريض، بل كل مواطن بما يضر وما ينفع – وتوصيل المعلومة له بما يتناسب مع دخله ومستوى تعليمه وثقافته، وفى سبيل ذلك على الدولة أن ترصد من ميزانيتها للإنفاق على الأوجه الوقائية وتنمية الوعى الصحى كما تنفق على المستشفيات والعلاج والأدوية.
وفى الخارج تنفق الدول ملايين الدولارات فى الأبحاث التى تخرج بتوصيات بفائدة هذا النوع من الطعام أو ذاك لمرضى القلب ثم تهيب الجهات الصحية بالمرضى بإدراجه فى وجباتهم اليومية، بل وتخرج وسائل الإعلام فتتسابق وتتفنن فى تقديم الوصفات لطهيه بعدة طرق حتى تشجع المريض على تناوله.
إن ما يوضع فى طبقك وطبق أطفالك شأنك أنت فى المقام الأول والأخير واختيار أصناف الأكل والإضافات وطريقة طهيها ليس أمراً معقداً ولا يخضع لسياسة الدولة العليا - ولا توجد دولة على وجه الأرض مهما بلغت قوتها الاقتصادية تستطيع أن تجبر مواطنيها على تغيير نمط حياتهم أو التحكم فى اختياراتهم الغذائية، فالأمر متروك لك وحدك لتناول طعام صحى أو لإفساد شرايين قلبك ومخك بالمزيد من الدهون والأملاح.
أن إتباع النمط الصحى ليس بالرفاهية.. علينا أن نبدأ بفكرة قبول تغيير عاداتنا، فهو ليس بالمستحيل، فالعادة ببساطة، كما ينبئنا خبراء السلوك، تبدأ بفكرة ثم تتحول لفعل وعندما يتكرر الفعل تصبح عادة .. الأمر يتطلب القليل من الوعى والإرادة.
إن لدى المصريين إرادة وعزيمة لا يمكن تجاهلها وفى الماضى قاتل المصريون المستعمر على مر العصور وصمدوا وقت الشدائد ووحده التاريخ يروى لنا قصصاً عن الصمود والمواجهة تحت ظروف شبه مستحيلة إنسانياً.. واليوم اختلفت المعركة وتغير العدو فالمصريون اليوم يقتلهم الكولسترول والسيجارة والقيادة بسرعة جنونية.
أن المعركة اليوم مع أنفسنا والشجاعة اليوم فى مواجهة السلبية والاستسلام.. علينا استحضار الإرادة الكامنة وتوجيهها إيجابيا لتصير جزءا من الحياة اليومية، وكما ذكر أحد الحكماء: أن أثمن الانتصارات هى تلك التى ننتصر فيها على أنفسنا.
فعلى كل أب وأم أن ينميا فى أطفالهما إلى جانب الاستقامة إتباع الأسس الصحية السليمة والعادات التى تكفل السلامة على الطريق وغيرها.. فالأديان السماوية جميعها تحثنا على الحفاظ على الصحة وتزكية أنفسنا من الانسياق إلى المهالك.
لقد فقد لويس برايل البصر، لكنه لم يفقد البصيرة.. وكم من مبصر لا يرى الطريق.
إن معرفتك بسبل تناول الطعام بطريقة صحية وقيامك باختيارات مفيدة صحياً وإقلاعك عن التدخين وممارسة الرياضة وتغيير نمط حياتك وحياة أسرتك.. كفيل - على الأقل - بوقف عملية تصلب الشرايين المستمرة إن لم يدرأ إضرارها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة