تتراكم أمام عينى كتب كثيرة لم أقرأها بعد، أشعر بالأسى لأنها تتزايد، وأن الوقت لم يعد كما كان فى صالحى، الحياة تدفع الواحد منا إلى مجاراتها، لكى يشعر الآخرون أنك فى الحياة، تجلس مستسلما أمام التليفزيون لتشاهد شخصين يتشاجران على مصطلح أو خبر أو مصلحة مع مسؤول أو رجل أعمال، بينهما مذيع (أو مذيعة) يجيد سكب البنزين بينهما، لتكثر فواصل الإعلانات، أو تقوم «بقزقزة» فيلمين أو ثلاثة فى الليلة متوهما أنك فى حالة استرخاء.
فى النهاية نجح أناس يعملون فى البيزنس فى تجنيدك «كزبون» مستهدف، أناس وظيفتهم صناعة الثقافة، صناعة لا تبدع الأعمال الثقافية المفردة، بل هى التى تطلبها بمواصفات معينة وتنقلها من المبدعين الأفراد إلى التوزيع بالجملة على جمهور واسع.
الناقد الكبير إبراهيم فتحى كتب فى جريدة القاهرة الأسبوع الماضى مقالا رائعا عن صناعة الثقافة فى العالم وكتاب «الاحتكار الجديد للميديا» لـ «بن باجديكيان»، لتكتشف أن لدى هذه الصناعة كوادر من مصممى الموضات الفكرية وطهاة المطبخ السياسى، هم يؤكدون أن الأغلبية تختار قيودها من المسلمات الرائجة بكل حرية وترفل فيها، فهم يعملون جاهدين فى صناعة الثقافة على برمجة سلوك الجمهور ومواقفه ونطاق عواطفه بأكملها، كما يعملون على أن يقتصر النقد على النقد الفاتر السقيم الذى يسمونه النقد البناء أو المعارضة السليمة.
إنها صناعة تنزلق بخطى الناس نحو الانهماك فى التسلية والتخفف من المسؤولية، إنها تجعل المبرمجين يتجادلون فى حماس حول: هل يتزوج المطرب من الممثلة، وهل سيكتشف البوليس لغز الجريمة، وحول من سيكون بطل الدورى؟؟، ولا شىء يشغلهم حول قضايا حقيقية تتعلق بمصالحهم الأساسية لا المؤقتة والموسمية وحدها، الأيديولوجية الاستهلاكية التى تنشرها صناعة الثقافة كما يقول فتحى، تقوم على أن يعيش الفرد لنفسه بالكامل باحثا عن السعادة، ولكنها لا توجه الجمهور إلى ما ينبغى أن يعمله لتحقيق هذه السعادة، وتكتفى بنشر أقصى استمتاع بأقل جهد، وتتطلب اللذات بطبيعة الحال امتيازات اجتماعية ولا يمكن أن تكون متاحة للجميع بالدرجة نفسها، فينقلب التصور على أعقابه، ويصبح الزهد الاضطرارى شكلا روحانيا أسمى من المتعة.
فى مصر الآن يوجد «أفيش» نادر وضخم لنجوم زمن، سياسيين ومغنين ومعارضين فضائيين وكتاب رأى ومذيعين وروائيين عالميين ومحليين ورؤساء تحرير صحف ومفكرين، نجوم ظهروا فجأة ولاعبو كرة قدم حاليون وسابقون، «زنقوا» الجمهور فى مقعده، وأوهموه بأنهم يعبرون عنه وعن طموحاته وهو فى مكانه، يتحدثون باسمه ولا يقدمون له شيئا، هو لا يعرف غيرهم، ومضطر لتصديقهم، لأنه لا بد أن تصدق أحدا، مادام يظهر على الشاشة ويكتب فى الجرائد، وفى النهاية يكذب الجميع على الجميع، لكى يفوز الحزب الوطنى بالانتخابات والثروة، ولكى نصدق شعار «علشان تطمن على مستقبل ولادك»، أن المستقبل للأسرة المصرية (الأسر اللى مش مصرية.. لأ).. وكل عام وأنتم بخير. > >
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة