من حين لآخر تعلو أصوات خاصة من بعض المصريين المقيمين بالخارج تنتقدنا لعدم إعادة جميع الآثار المصرية الموجودة بالمتاحف والهيئات العلمية الأجنبية، وهو أمر للوهلة الأولى قد يبدو مقبولاً من الناحية العاطفية وينم عن حماسة وغيرة وطنية محمودة، إلا أنه فى الكثير من الأحيان يفتقر إلى المنطق والحجة القانونية, ونفاجأ فى أحيان أخرى نتيجة لجهل البعض بالنظم القانونية التى كان معمولاً بها منذ أكثر من 175 عاماً بشأن حماية الآثار بظهور بعض المواقع الإلكترونية المجهولة، التى ما أنزل الله بها من سلطان، تنشر أخباراً منقوصة أحياناً ومفبركة أحياناً أخرى، للمزايدة على موقف المجلس الأعلى للآثار من قضية استرداد الآثار المصرية، وتتهمنا بالتخاذل دون سند منطقى أو موضوعى.
والحقيقة أن وزارة الثقافة ممثلة فى المجلس تقوم بهذا الدور بصورة احترافية فائقة، ففى عام 2002 أنشأ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار إدارة للآثار المستردة، مهمتها أن تتابع يومياً ما يعرض ويظهر فى العالم كله عن الآثار، التى خرجت من مصر وندرسها حالة بحالة، وندعو اللجنة القومية لاسترداد الآثار المهربة المشكلة بقرار رئيس الوزراء للاجتماع بصورة دورية برئاسة الأمين العام ونعرض عليها أهم القرارات والموضوعات، وهى تضم نخبة من الشخصيات العامة والمتخصصين بوزارات العدل والخارجية والداخلية والهيئات المعنية باسترداد الآثار المهربة.
وتقوم استراتيجية الاسترداد على أسس موضوعية وقانونية وعلاقاتنا الدولية بالمتاحف والهيئات العلمية الأجنبية, كما تتم عملية التفاوض على أساس استخدام أدوات القوة من جانبنا كأصحاب هذه الآثار والأمناء عليها ونضغط بكل ورقة لدينا لإعادة آثارنا المسروقة ولا نتهاون أو نقصر فى استرداد أية قطعة يثبت لنا بالدليل القاطع أنها خرجت من مصر بطرق غير مشروعة، ونعمل على استعادتها فوراً، ونجحنا فى ذلك كثيراً ولم ندفع مليماً واحداً تعويضاً، لأنه لا تعويض عن جرائم سرقة آثار.
إلا أن ما يجهله الكثيرون أن الغالبية العظمى من القطع الأثرية المصرية، التى تعرض فى متاحف أوروبا وأمريكا قد خرجت من مصر بطرق مشروعة، وفقاً لنظم قانونية كانت مطبقة لدينا فى السنوات الماضية، سواء كإهداءات وتبادل من الدولة أو بتصدير مشروع واتجار مرخص به للأفراد أو من خلال تطبيق نظام القسمة الذى كان حتى عام 1983 يعطى المكتشف نصف الآثار التى يعثر عليها أثناء التنقيب ثم تعديل النسبة إلى 10%، ومع ذلك أصدر وزير الثقافة عام 1988 قراراً بعدم إعطاء البعثات هذه النسبة، وبالتالى نحن ندرس حالات الاسترداد جيداً قبل الانزلاق فى مطالبات غير مجدية قد تضعف موقفنا فى حالات أخرى فنفقد مصداقيتنا.. هناك دائماً خيط رفيع يفصل بين العاطفة والقانون لا نتجاوزه مطلقاً، ولا نحيد عنه أبداً، حتى نحافظ على ثباتنا.
إن الاسترداد لا يعرف العواطف ولا الشعارات الرنانة, والآثار لا تسترد بالحناجر العالية، بل هى منظومة عمل كاملة تسير وفق آلية فنية وقانونية ودبلوماسية محددة، مما ساعدنا على استرداد أكثر من سبعة آلاف قطعة أثرية من مختلف دول العالم خلال الأعوام السبعة الماضية فقط، أغلبها نادر وهام، وكان ذلك بقوة المنطق وسلامة الحجة القانونية.. فنحن مفاوضون نقف فوق أرض صلبة وراسخة.. لا مغامرون نجرى وراء سراب أو نردد شعارات جوفاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة