معنى الحج فى اللغة هو" القصد" لمكان ما للزيارة، ولكن كلمة الحج نحتت من معناها اللغوى العام إلى معنى اصطلاحى خاص، لتكون اسماً وعنواناً للعبادة الإسلامية المخصوصة فى الإسلام، وهو الركن الخامس والأخير من أركان الإسلام كما جاء الأمر فى القرآن والسنة وبشروطهما.
وسمّى الحج بهذا الاسم لأن المسلم الذى يؤدى هذه العبادة لابد أن يقصد مكة، والبيت الحرام، والأماكن المقدسة الأخرى كعرفات ومنى، والمزدلفة، ليؤدّى فيها مناسكه وشعائره.
وقد ربط الإسلام أداء هذه الفريضة بظرفى الزمان والمكان فى صحة أداء الحج،
فالإحرام يبدأ من أماكن محددة، والطواف يكون فى مكان معلوم، والسعى يكون بمكان محّدد، والوقوف يكون بمكان محّدد.. وكذا رمى الجمرات فى مكان خاص، والمبيت بعض الليالى يكون فى مكان محّدد...الخ.
وكما كان للمكان أهميته وموقعه التشريعى فى هذه العبادة، فإن للبعد الزمنى أيضاً أهميته وتأثيره كعنصر ضرورى يساهم فى صحة هذه العبادة وبطلانها.. لذا كانت أهم شعائر الحج ومناسكه مرتبطة بتوقيت زمنى محدد ولا يصح أداء فريضة الحج إلا بالتوقيت والمكان المحدد وأداء الطقوس والشعائر كما فعلها رسول الرحمة ونقلتها كتب السنة المطهرة.
الحج ينظر إليه فى العالم كله على أنه أكبر تجمع عالمى تعرفه البشرية فى كل تاريخها، فمشهد الحجيج وهم يقفون فى أرض واحدة بمنى أو على صعيد عرفات مرتدين ملابسهم البيضاء وكأنها أكفانهم المتجردة من كل متاع الدنيا ورغده ونعيمه ورفاهيته، يبتهلون إلى الله وحده ويناجون الله وحده بقلوب واجلة تملأها الرغبة والأمل والتطلع إلى راحة القلوب والأجساد فى الدنيا والآخرة، قلوب ونفوس وعقول خاشعة لذكر الله، لحب الله، لرضا يبعث فيها استمرار فى حياة مادية جافة قاسية ومتجبرة عليهم، إلى واحة من الرضا والتسامح. من قلوب مسكونة بأنات دفينة تسكن القلوب الكسيرة المجبرة على المسير فى خطوات ثابتة إلى مصير محتوم وطريق غامض لم يعد منه مسافر.
يتجمع الحجيج من كل حدب وصوب للوقوف على جبل عرفات فى اليوم التاسع من ذى الحجة، ليكون الحج عرفة، وليقم الركن الأساسى من الحج وهذا هو المشهد الرئيسى فى الحدث الأهم فى حياة المسلم تجربة مشهد" يوم الحشر"، فينقل لنا نحن الذين نشاهد الحجاج صورة حية عن معنى "الحشر" يوم القيامة بينما يعايش الحاج نفسه هذا المعنى الكبير قبل أن يفاجئه يوم القيامة.
وللحشر علاقة قوية بالبعث بعد الموت، والحج هو أيضاً عملية بعث وتجديد تخرج الحاج من عالم الغفلة والطمع واللهاث وراء متاع الدنيا وزخرفها إلى عالم الحرية الحقيقية حيث يكون عبداً لله وحده طائعاً لله وحده داعياً الله وحده آملاً من الله وحده كل العفو والمغفرة والوعد بقبول التوبة وتلبية كل الرجوات.
بعد الحج يتحول الإنسان إلى كائن جديد كيوم ولدته أمه كما جاء فى السنة المطهرة وكما يتمنى كل الحجيج، هذه الولادة الجديدة هى الفرصة التى يذهب الحاج بعد كل الشقاء المادى والمعنوى للحصول عليها ويعيش يحلم بها طوال حياته حتى يبدأ حياة جديدة مع الله كما يريد هو وكما تمنى طوال سنين حياته، أن يعيش لحظات صدق حقيقية ويكون الشخصية التى يتمناها لتترافق و شخصيته الذاتية والاجتماعية، فالحياة الجديدة التى يعيشها الحاج بعد عودته إلى مجتمعه وبلده تجعل منه متسامحاً، كاظماً للغيظ، فاعلاً اجتماعياً لا يقف مما يحدث حوله سلبياً أو أنانياً أو مغروراً أو معينا للظالمين والطغاة، فهو بعد الحج يصبح إنساناً جديداً ذا هوية مختلفة بروح وثابة نحو الفعل الإنسانى الجيد والخيّر الذى يعلى قيم الحق والجمال داخل النفس والمجتمع والبشرية جمعاء.
والمعجز أيضا فى الحج أنه تجربة واستحضار لخطى مقدسة فى رحلات مباركة من أبو الأنبياء إلى آخر الأنبياء، إنها رحلة استشراف خطوات النبوة والرسالات والوحى والتاريخ وربط الماضى بالحاضر والمستقبل، ومن رحلات الماضى إلى العبور إلى دار الخلود عبر هذا الممر الذى يربط الماضى بالمستقبل وهذه هى الحكمة الجليلة والفكرة البراقة فى موسم الحج وتجمع الحجيج، إنه موسم يتجلى فيه التاريخ والجغرافيا وعلوم البشرية لتجسد أهم لحظة فى حياة أى إنسان أو بالأحرى كما يجب أن تكون لحظة الإيمان بالولادة من جديد والتصديق بالنبوات والرسالات أجمعين وبشارة سيد المرسلين.
هنا التاريخ لم ينقطع، فهو موصول وحاضر أبداً فى وجدان الحجيج ووعيهم وفى سلوكهم وممارساتهم.
وبالحج أتم الله الدين الخاتم وأكمل النعمة على البشرية، قال الله تعالى:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً". وفى حجته الوحيدة والأخيرة خطب الرسول المصطفى الحبيب فى الناس بعرفة وأسس قانون الأمة ووحدتها، فكان مما قاله النبى فى خطبة الوداع "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا". فحرم النبى صلى الله عليه وسلم قتال وقتل المسلمين لبعضهم، وأكد على حرمة الدم ، كما حرم ظلم المسلمين باغتصاب الأموال، وأكد على حرمة المال، وأوصى النبى فى خطبته بالنساء خيراً فقال "اتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله"، فأى دين أنصف النساء مثل الإسلام الذى جعل النبى يوصى فى خطبته بآخر حجة له بهن، ويعتبر ظلمهن من أمر الجهل والجاهلية.
ثم أرشد الأمة إلى أن مرجعها هو كتاب الله فقال "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبداً إن اعتصمتم به كتاب الله".فكما للأركان الأساسية فى الحج معنى ومضامين تأتى "حكمة التلبية" أيضاً بكل شجن وحنين الحناجر من كلمات ومعانى، وكما يتجرد الحجيج من المخيط فى الإحرام فينبغى أن يتجردوا لله فى الأعمال فيجعلونها خالصة لوجهه الكريم، ولا يشرك برب الكون أحداً .
ملبين كما أمر :
" لبيك اللهم لبيك لبيك..لاشريك لك لبيك..إن الحمد والنعمة لك والملك..لاشريك لك لبيك"
ومعناها : ها أنا عبدك !
وأنا مقيم على طاعتك وأمرك !
غير خارج عن ذلك ، ولا شاردٍ عليك ! فهى اعتراف بالعبودية ، وإقرار بالطاعة ، وإذعان وخضوع لله الواحد الرحمن الرحيم غافر الذنب وقابل التوب من عباده كل عباده الصالحين والطالحين ولا ملجأ من الله إلا إليه.
وليكن ميلادا جديدا على جسر ممتد من الماضى والحاضر والغد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة