يوم الجمعة 22 أكتوبر2010 الساعة الخامسة مساء نشر موقع ويكليكس حوالى 400 ألف وثيقة عن حرب العراق، تغطى الفترة من يناير 2004 إلى 31 ديسمبر 2009، وقبل ذلك نشر الموقع نفسه 77 ألف وثيقة عن الحرب فى أفغانستان، وقد تناولت هذه الوثائق العديد من الانتهاكات الجسيمة التى حدثت خلال هذه الحروب. وقد طرح النشر العديد من الأسئلة والكثير من علامات الاستفهام والتعجب والحيرة والاستغراب والغموض.
وقد قرأت الكثير مما كتب عنها منذ نشرها وتكونت لدى قناعاتى الخاصة حول هذا الموضوع، وهذه القناعات مبنية على المعلومات التى جمعتها وأيضا بناء على تحليلى الخاص لهذه المعلومات.
أولأ: هل ما نشر يمكن تصنيفه على أنه وثائق؟.
فى تقديرى الإجابة لا. هذه يوميات ميدان كان يكتبها الجنود والقادة بشكل عابر عما يحدث خلال الحرب، أى هى معلومات خام لم يتم مراجعتها وتنقيحها وتدقيقها من قبل وزارة الدفاع الأمريكية، لاعتمادها كوثائق ومن ثم يمكن أن يطلق عليها "أوراق ويكليكس".
ثانيا: هل هذه الأوراق صحيحة أم هى وقائع مفبركة؟
فى تقديرى أن ما جاء فى هذه الأوراق صحيح بشكل كبير، ومن ثم الوقائع التى تناولتها صحيحة، ورغم أن البنتاجون رفض التعليق على صحتها من عدمه، فإن هذا موقف متوقع منه حتى لا يعطيها مصداقية من ناحية، وحتى لا يعترف بصحتها، ومن ثم تحمل تبعات ما جاء بها أمام الرأى العام أو أمام جهات التحقيق الدولية إذا تطور الأمر.
ثالثا: كيف حصل موقع "ويكليكس" على هذه الأوراق؟
هذا فى الحقيقة سؤال كبير وغامض ويحوى كافة الاحتمالات، إذ كيف استطاع هذا الموقع اختراق أجهزة الاستخبارات الأمريكية الجبارة واستولى على هذا العدد الضخم من الملفات؟، وكيف استطاع مواصلة اختراق هذه الأجهزة حتى بعد نشره لأوراق أفغانستان؟. قد يكون هذا الشخص جوليان أسنج (39 سنة) من محترفى استخدام وسائل القرصنة ووصل لمرحلة العبقرية فى ذلك كما قالت نيويورك تايمز، وخاصة أنه له خبرة طويلة فى القرصنة المتعلقة بهذا المجال، ونجا من السجن فى بلده أستراليا عام 1995 بعد اتهامه بـ 25 محاولة قرصنة على الكومبيوترات، وعاش طفولة بائسة فى بلده ومتهم بالتحرش الجنسى فى السويد، بما يعنى أنه شخص فوضوى يعشق التحدى. وقد يكون هذا التسريب تم بمعاونة جهة استخباراتية من الشرق الأوسط لها مصلحة كبيرة فى ظهور هذه الأوراق، وقد يكون التسريب تم عن طريق شخص يعمل فى جهاز الاستخبارات الأمريكية، وهناك بالفعل محلل استخباراتى اسمه برادلى ميننج مقبوض عليه بهذه التهمة واثنين آخرين تحت التحقيق، وقد تكون وزارة الدفاع نفسها وضعت هذه الأوراق بطريقة غير آمنة تماما باعتبار أن معظمها غير ذى أهمية والقلة من هذه الأوراق يمكن تصنيفها على أنه متوسطة السرية والأهمية، ومن ثم فإن اقتناصها ليس بمعجزة ولا هو بالعبقرية الفذة، لأن هناك الكثير من الأسرار الحقيقية فى ملايين الوثائق بهذه الأجهزة ولم يستطع أحد الحصول عليها أو قرصنتها.
رابعا: هل هذه الأوراق تعطينا صورة كاملة عن الحرب فى العراق؟
بالطبع لا، فوفقا لما نشر تبدو موجهة وانتقائية وتغطى زوايا معينة وتتجاهل زوايا أخرى، فعلى سبيل المثال غطت الدور الإيرانى المتعاظم داخل العراق بما فى ذلك دور شركاء إيران سواء حزب الله أو جيش المهدى أو فيلق بدر، ولكنها تجاهلت دور السعودية وبعض دول الخليج الأخرى، فالصراع داخل العراق هو بين جناحى العنف والتكفير وهما الخومينية والوهابية، وفى حين غطت هذه الأوراق بشكل مستفيض الشق الخومينى ولم تتطرق إلى الشق الوهابى فى الإرهاب الذى يجتاح العراق، كما أن هذه الأوراق تبدو وكأنها نشرت لتبرئة الجيش الأمريكى من الانتهاكات التى حصلت فى العراق وحملتها على الجانب العراقى، وكل جريمة الأمريكيين أنهم تغاضوا عن هذه الانتهاكات أو قاموا ببعض الانتهاكات الصغيرة التى تفرضها ضرورات الحروب وتحدث فى معظم الحروب.
كما قلت إننى لا أشكك فى صحة هذه الأوراق بل أننى أشكك فى شموليتها لتضعنا أمام الصورة الكاملة لما حدث، فنحن أمام صورة مبتورة تخل بالحقيقة، وهذا يضع العديد من علامات الاستفهام حولها.
خامسا: لماذا هللت قناة الجزيرة وبعض وسائل الإعلام العربية لهذه الوثائق؟
تصورت قناة الجزيرة أن هذه الوثائق تدين أمريكا بشكل قاطع وتشوه سمعتها بشكل كبير، فى حين أن التمعن فى قراءة الوثائق فإنها تدين حلفاء الجزيرة سواء إيران أو حزب الله أو سوريا. فمن الطبيعى أن ترتكب أمريكا بعض الانتهاكات لأنها فى حالة حرب وتواجه عدوا غير تقليدى، وهو التنظيمات الجهادية فى العراق التى تستخدم كافة الوسائل اللأخلاقية فى القتل والتفجير والتمثيبل بالجثث وتتعمد استهداف المدنيين، ولمطاردة عدو بهذا الشكل اللإنسانى طبيعى أن تحدث بعض التجاوزات من الجيش الأمريكى، ولكن ماذا عن إيران؟ لماذا تقوم بكل هذا التخريب فى العراق، وهى من المفترض أنها غير معنية بالأمر؟ وماذا عن سوريا ودورها التخريبى أيضا فى العراق الجديد؟، وماذا عن حزب الله؟ إن الجزيرة بدون أن تدرى سلطت الضوء على انتهاكات حلفائها رغم أن الصراخ كان موجها من أجل تشويه صورة أمريكا وشحن المشاهدين ضدها.
كما أن ما جاء فى الوثائق يتناقض مع ما كانت تبثه الجزبرة ليل نهار من أن هناك أكثر من مليون عراقى هم ضحايا الغزو الأمريكى، فى حين أن ما جاء فى الوثائق يكذب ذلك ويقول إن مجمل الضحايا هو 109032 قتيل، منهم 66081 مدنيا (يشمل المدنيين على المفقودين وعددهم حوالى 15 ألفا)، ومن الأعداء المقاتلين 23984 قتيلا، و15196 من القوات العراقية، و3771 من قوات التحالف. وأن معظم حوادث القتل والتخريب هى من فعل عراقيين ضد عراقيين أو من فعل قوى التخريب والإرهاب القادمة من دول الجوار، ومن ثم لا تتحمل أمريكا مسئولية كبيرة عن قتل هؤلاء المدنيين.
سادسا: من أكثر المتضررين من نشر هذه الوثائق؟
فى تقديرى، إن أكثر المتضررين من نشر هذه الوثائق هم بالترتيب: إيران - حكومة نور المالكى – سوريا - حزب الله - وفى النهاية أمريكا.
لقد كشفت الأوراق المنشورة عن ممارسات إجرامية لإيران فى العراق من تهريب الأسلحة إلى إرسال قوات من الحرس الثورى، خاصة فيلق القدس للتخريب داخل العراق إلى تدريب عملائها من العراقيين على القتل والتفجير إلى رعايتها لجيش المهدى وفيلق بدر. وعرفنا سر السيارات المفخخة، حيث كانت إيران ترسل للإرهابيين القنابل المغناطيسية اللاصقة التى تلتصق بالسيارات من أسفل وتنفجر بقوة فى المبانى والتجمعات والمساجد والكنائس، وعرفنا أن إيران أرسلت أيضا أسلحة من نوعية الأربجيه والهاون والرشاشات عيار 50 والصواريخ مساغ -1 والصواريخ عيار 107 ملى، وكلها أسلحة رأينا آثارها التخريبية فى العراق فى السنوات السبع الماضية. كما ترددت الأسماء المرتبطة بإيران مثل ازهر الدليمى، وقيس الغزالى، وليث الغزالى، وحسن سليم، وعلى السعدى، ومقتدى الصدر. وكلها أسماء كانت لها أدوار تخريبية فى العراق.
وكما نشرت النيويورك تايمز فإن دور إيران كان أضعف وتحديد شكل الحكومة العراقية، وتقويض الدور والنفوذ الأمريكى داخل العراق حتى الانسحاب... والنتيجة بقاء العراق ضعيفا لا يمثل أى تهديد لإيران فى أى وقت فى المستقبل.
ثانى أكثر المتضررين هى حكومة نور المالكى والتى صورت فى الأوراق على أنها حكومة طائفية تقوم بأعمال إجرامية بدون سند من قانون وخاصة ضد السنة، وأنها ارتكبت الفظائع بدون موافقة القوات الأمريكية، وأن الأمريكيين عندما كانوا عندما يهددون شخصا عراقيا كانوا يقولون له سنرسلك للحكومة العراقية، كما عرفنا أن هناك فرقة خاصة تابعة للمالكى وتأتمر بأوامره تقوم بعمليات القتل والتعذيب والبلطجة بعيدا عن القانون، وسمعنا عن لواء الذئب المرعب، ووحدة المغاوير العراقية المنفلتة.. وكلها أمور تجعل من المالكى مجرما أمام شعبه وأمام القانون الدولى الإنسانى.
سابعا: هل يمكن محاكمة بعض القادة الأمريكيين بناء على هذه الأوراق كما قال مدير موقع ويكليكس؟
وقد أجاب على هذا السؤال المقرر الخاص للأمم المتحدة لشئون التعذيب مانفريد نواك فى مؤتمر صحفى حيث قال "بموجب أنظمة المحكمة الجنائية الدولية فإن أى شكل من أشكال التعذيب المنتشر أو المنظم هو جريمة ضد الإنسانية أكان فى زمن السلم أم الحرب. إن الولايات المتحدة لم توقع على هذه الأنظمة، وبالتالى لا يمكن إحالة أى جندى أمريكى إلى المحكمة الجنائية الدولية إلا إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على أراضى دولة وقعت على هذه الأنظمة والعراق لم توقع، ولهذا فإن هذه المحاكمات غير ممكنة. ولهذا طلب من الولايات المتحدة إجراء تحقيق داخلى حول ما نشر فى هذه الوثائق وإعلان النتائج للرأى العام العالمى. وهذا فى تقديرى مطلب جيد.
أما المتحدث باسم البنتاجون فقد أعلن "أن السياسة الأمريكية تجاه الاعتداء على المعتقلين كانت ولا تزال تتفق مع القانون الدولى والممارسات الدولية فى هذا الإطار". أما إذا كان الأمر يتعلق بالذهاب إلى لاهاى لمقاضاة الولايات المتحدة على مخالفة اتفاقيات جنيف فهذا من المفترض أن تقوم به الحكومة العراقية، وهى لن تقوم به لسببين أولا لأنها هى المتورط الأول فى تعذيب العراقيين، وثانيا لأن هناك اتفاقية تعاون إستراتيجى بين العراق وأمريكا تمنعها من القيام بمثل هذه الخطوة.
فى النهاية فإن الذين حاولوا تشويه أمريكا فى الميديا العربية بتناول هذه الوثائق هم فى الحقيقة شوهوا أنفسهم وكشفوا عن أن العرب هم الذين لا يحترمون النفس الإنسانية، وأن معظم التفجيرات هى بين سنة وشيعة أو من فعل دول الجوار. وأن نتائج كشف هذه الأوراق قد تحدث حروبا أهلية داخل العراق، كما أنها كشفت أمورا لن تغتفر للحكومة العراقية الحالية.
والأمريكيون لم ينتظروا ويكليكس ليعرفوا ما دار فى هذه الحرب، فقد نقلتها التليفزيونات الأمريكية، وكشفت الصحف الأمريكية ذاتها قضية سجن أبو غريب، كما أن العديد من الكتب صدرت حاملة الكثير من التفاصيل عن الحرب على العراق ومنها كتاب بوب وودورد، وكتاب آخر بعنوان "قاتلوا من آجل الآخر" نشرته محررة فى مطبوعة أخبار الجيش "ارمى نيوز"، والرئيس بوش بنفسه نشر مذكراته، وقريبا سوف تنشر مذكرات رامسفيلد، فأوراق ويكليكس ليست هى أوراق البنتاجون التى نشرت عن الحرب الفيتنامية (1965-1975)، فالزمن غير الزمن.. ولهذا لم تحوِ أوراق ويكليكس سوى على عدد صغير من المعلومات غير المعروفة.
كاتب هذا المقال ناشط حقوقى بارز ومدير منتدى الشرق الأوسط للحريات – واشنطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة