يقول لله تبارك وتعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبَيْنُ) صدق الله العظيم – الصافات 106 و107 .
جاءت هاتان الآيتان خاتمة سعيدة للابتلاء المبين الذى ابتلى به خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام, حين رأى فى المنام أنه يذبح ابنه الغالى إسماعيل عليه السلام, واستقر فى وعيه أن ينفذ أمر الله عز وجل, عندما جاءت اللحظة الفاصلة، وكاد أن يهوى بالسكين على رقبة ابنه المستسلم لقضاء الله؛ نزل على قلبه الوحى "أن قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المُحْسِنِينَ" (37/105) __الصافات).
ومنذ تلك اللحظة شاءت إرادة الله أن تخلد ذكرى هذا الموقف الرهيب الذى امتحن فيه إيمان خليل الرحمن, فكان تكليف حجاج بيت الله الحرام بنحر الذبائح إحياء لتلك الذكرى كل عام فى موسم الحج, وقد ورد فى الأثر أن الشيطان قد وقف لإبراهيم، وهو فى طريقه لينفذ أمر الله عز وجل يحاول أن يثنيه عن عزمه, ومن المؤكد أن الله تبارك وتعالى يعلم من يكلف بحمل الرسالة, فما استطاع الشيطان أن يفعل شيئا مع نبى الله بل إنه فر هاربا من وجهه بعد أن رجمه إبراهيم عليه السلام بالحجارة، وهو أيضا الموقف الذى خلده تكليف حجاج بيت الله الحرام بإتمام شعائر الحج برمى الجمرات على نصب الشيطان أيام التشريق, أى فى أيام العيد, مرددين مع كل جمرة (اللهم مرضاة للرحمن ومدحرة للشيطان).
إذن فعيد الأضحى يحمل فى طياته كثيرا من المعانى الرائعة، سواء للحاج وغير الحاج, فهذا الاحتفال السنوى بأن يجتمع ملايين المسلمين كل عام فى هذه الأيام المباركة هو أجَلّ إحياء لموقف أبى الأنبياء الذى سمانا المسلمين.
ونأتى إلى شعيرة ذبح الأضحية لغير الحجاج, فهى سنة مؤكدة الهدف منها أولا وأخيرا تبادل العطاء, وإطعام أفواه الفقراء, فتقسيم لحم الأضحية يكون ثلثا للمضحى وأسرته, وثلثا لأقاربه, وثلثا للفقراء, ومما لاشك فيه؛ أن معظم فقراء الأمة يتطلعون بلهفة إلى مجىء عيد الأضحى، حيث ينالون حظهم الوافر من لحوم الأضاحى, وتتبادل الأسر أنصبتها من اللحم, ويتبادلون التهانى بالعيد, فيسود الوئام ويعم الحب بين من يقدر ومن لا يقدر, والكل يتذكر موقف نبيهم وأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وعيد الأضحى تماما كما عيد الفطر؛ مناسبة متاحة للجميع من القادرين للإكثار من العطاء, الذى هو السمة المميزة لأعياد المسلمين, ومع أن العطاء مطلوب من المسلم كل أيام السنة؛ فإن الإكثار من العطاء فى العيد يتمم به المسلم أداء شعيرته التى لم يستطع أن يقوم بها عامه هذا, فيكبر ويلبى عسى الله أن ييسر له, ويقرب إليه أداء مناسك الحج, والمسلم الذى يضحى فى داره يختار ذبيحته على قدر استطاعته, فليضح بجمل أو ثور أو بقرة أو كبش، أو حتى أن يضحى بلحم اشتراه مذبوحا جاهزا, فليس المهم شكل أو مواصفات الأضحية, بل الأهم أن يأكل الناس اللحم يوم العيد, ويتكافلون ويتزاورون ويتبادلون لحوم الأضاحى ولو لعدة أيام فى السنة, وأن ينال الخير أكبر عدد ممكن من الأسر, ويمارس المجتمع كله فكرة التضحية وقوة الإيمان وطاعة الله عز وجل, وهذا هو الهدف الأسمى من التضحية لغير الحاج.
ولنتخيل الآن الأعداد الهائلة من الأضاحى التى تنحر فى الأراضى المقدسة فى كل عام فى أيام التشريق الأربعة, لماذا لا تتكافل الدول الإسلامية كما يتكافل الأفراد فى المجتمع الواحد؟
إن هذه الكمية الهائلة من اللحوم؛ إن أحسن استخدامها كفيلة بأن تطعم عشرات بل مئات الملايين من الأفواه الجائعة, فى العالم الإسلامى كله, فكما هو مطلوب من الأفراد أن ينحروا الذبائح فى العيد, ويعيشوا فكر التضحية, فهو مطلوب أيضا من الدول القادرة أن تتبنى نفس الفكر؛ فكر التضحية والإيثار وإغاثة الجوعى فى غزة والصومال وبنغلاديش والفليبين, وفى أرجاء أخرى فى العالم الإسلامى الذى ينهش الفقر والجوع أجساد أطفاله, بينما يرفل الآخرون فى النعيم والترف, ولا حول ولا قوة إلا بالله, مع أن الكل يجب عليهم فهم معنى عيد الأضحى فهما صحيحا وهو التضحية بالذات وإيثار الغير على النفس كى يكون عيد الأضحى اسما على مسمى يعيش فيه الجميع، وهم يحملون لبعضهم البعض أسمى المشاعر التى ستعم مجتمعاتنا، عندما يتم فهم معنى التكافل الاجتماعى الذى حرص على بثه فينا ديننا الحنيف من خلال الفهم الصحيح لكل شعائر عيد الأضحى التى تتضمن فى طياتها أرقى مبادئ التكافل الأجتماعى الذى يجب أن يسود ويعم مجتمعاتنا الإسلامية.
ولو فهمنا هذه المبادئ السامية وطبقناها تطبيقا صحيحا سليما، لما وجدنا مسكينا أو محروما أو محتاجا أو جائعا، وعندها فقط سيصبح عيد الأضحى فعلاً هو عيد التضحية والإيثار والحب والفداء، والله من وراء القصد.
