فى فيلم "الوسادة الخالية" كان البطل يستعذب عذابه فى فراقه عن حبيبة القلب، يحيى مع خيال أصبح ممتنعاً وممتعاً، وهكذا تحكى أغلب روايات الغرام على شاشات السينما، فهى صورة وردية شفافة لمشاعر فائقة الرقة، وتنتهى فى معظمها، وخاصة فى الأفلام المصرية والهندية بالزواج.. وإن كانت لا تحكى لنا ماذا حدث للبطلين بعد الزواج!..
وقد امتلأ ديواننا الشعرى العربى بالغزليات الرائعة، وكان عمر ابن أبى ربيعة أحد فرسان هذه الغزليات، وقيل عنه إنه عاش فى الفجور أربعين عاماً، وفى التقوى أربعين عاماً حتى مات، فقد كان شعراء الغزل فى تاريخ الأدب العربى مجلبة للعار والفخار فى نفس الوقت، فهم يفضحون الحرائر ويتنكبون مبادئ الشريعة السمحاء، ولكنهم من ناحية أخرى فرسان للبيان، ويخاطبون مناطق خاصة فى أحاسيس الناس، لا يمكنهم الاختلاف فى الشعور بها، وإن كانوا يخجلون فى التعبير عنها أو التصريح بها..
أشعار ابن أبى ربيعة تعكس صوراً لعاشق أبدى، وصلت به الجرأة إلى حد انتظار موسم الحج كى يتصيد بأشعاره الفاتنات اللائى يؤدين المناسك، وقيل إنه لم يتعلق بحبيبة واحدة، وإنما كان قلبه موزعاً بين عشرات العشيقات، وكأنه سهم منطلق فى الفضاء أينما أصاب فريسة صارت هى العشيقة التالية..
أما جميل بثينة، فقد كان محصوراً فى تلك العشيقة التى تزوجت رجلاً آخر، وظل حتى آخر رمق يستعذب عذابه فى حبها، وكأن غايته هى العذاب وليس بهجة القلب..
وفى عذابات قيس مع ليلاه، عاشت أجيال من عشاق العرب تقرأ أشعاره، وتغنيها، وتتمثلها، وحملت الكتب والصحف مساجلات حول "الحب الأول" و"الحب من النظرة الأولى" و"العشيقة" و"العشيق" وغير ذلك، وتبارزت فيها أبرع الأقلام، وكل يسوق حججه وتفسيراته..
ولكن ما هو الحب؟ هل هو مجرد عاطفة جياشة تمتلك من الكيان، لا يمكن تفسيرها بشكل مادى؟ أم أنها صورة ذهنية مصطنعة، بحيث يشعر بها الإنسان لمجرد الحاجة للحب؟ أم أن المسألة لا هى شعور، ولا هى صورة ذهنية، وإنما وهم اخترعه الإنسان كى يفسر اختياره ويبرره.. فلماذا مثلاً تكون مصادفة ابنة الجيران هى محل العاطفة فى أغلب الأحيان؟، أو زميلة الدراسة أو العمل؟ فلو كان ذلك الشاب يسكن فى منطقة أخرى لما التقى تلك الحبيبة التى عذبه غرامها، ولا شك أنه كان سيحب ابنة جيران فى تلك المنطقة الأخرى.. وهو ما ينطبق على زملاء الدراسة والعمل..
لقد كان عمر ابن أبى ربيعة يحب كل امرأة تصادفه، وهو فى ذلك يتحرك بغريزة الذكر تجاه أى أنثى مثل ذكر البط، وتلك النساء اللائى انتثرت فى أبياته لم يتحركن إليه سوى بغريزة الأنثى الطبيعية، مثل أنثى البقر.. لقد هامت "زليخة" بوسامة الرجل "يوسف"، وراودته عن نفسه.. إنها الغريزة التى تحرك النقيضين كقطبين كل منهما منجذب إلى الآخر..
لقد ركزت الأفلام المصرية على البعد الاجتماعى فى عاطفة الحب، فنجد بعضها تحكى عن الفتاة الفقيرة الشريفة التى تقع فى غرام الثرى المترف المتلف ( سيدة القصر مثلاً)، أو هى نفسها حين تضيع بين أهواء السادة (غرام الأسياد)، وفى البعض الآخر تحكى عن الشاب الفقير المغلوب على أمره، حين يقع فى غرام فتاة أرستقراطية، والرسالة الواضحة هى أن الحب ينتصر فى النهاية، ليس الشاب أو الفتاة.. وكأنها ثنائية الخير والشر حيث يجب أن ينتصر الخير فى النهاية.. فهل الحب قيمة تتماثل مع قيم العدالة والخير والمساواة، أم أنه مجرد شعور فطرى أو غريزى أو أكثر من ذلك أو أقل؟
ولكن الحب فى الأمثلة السابقة ينتصر على قيم المجتمع السائدة، أو يتحداها، وكأنه تعبير عن ثورة اجتماعية، ربما كانت هى دائماً الرسالة الضمنية فى كل هذه الأفلام، أى أنها لم تكن تتناول الحب وإنما التشوهات الاجتماعية وأثرها على العلاقات الإنسانية.
هل يمكن أن تكون علاقة الرجل والمرأة أكثر من احتياج غريزى للألفة والاجتماع فى المقام الأول، وهذا الاحتياج إذا تم اقتضاؤه تترتب عليه بعد ذلك تلك المشاعر التى تتلخص فى المودة والرحمة والحرص المتبادل؟
أثيرت مسألة الزواج عن حب، والحب بعد الزواج.. وانبرى كل فريق يدافع عن وجهة نظره، فهناك من نفى بل واستنكف إمكانية الحب قبل الزواج، وذهب إلى أقصى درجة حين طعن فى مشروعيته ( حيث اعتبره حراماً)، وقد استند هذا البعض إلى أن المعنى المكتمل للحب لا يمكن أن يتم من النظرة الأولى التى هى فى الأغلب خادعة وغير واقعية، أو حتى فى لقاءات خاطفة يتبادل فيها الطرفان الادعاء والتمثيل وتقليد القوالب الجاهزة فى الأفلام والروايات، ورأى هذا البعض أن الحب بمفهومه الحقيقى هو نتاج معاشرة ممتدة يتم فيها بناء المشاعر المتبادلة بأناة وصبر وتنازلات متقابلة لشخصيات مختلفة..
فيما ذهب فريق آخر إلى إمكانية الحب من النظرة الأولى، فهى الشرارة التى تشعل الحريق، وهى غير خادعة لأنها تستجيب لمخزون موجود بالفعل داخل الإنسان، كأنه قطب جاهز للتفاعل فى اللحظة التى يقترب فيها القطب الآخر، ويرى هذا الفريق أن علاقة الحب يجب أن تسبق الزواج، وأن ما يطلق عليه حب ما بعد الزواج ليس إلا الاعتياد ومسايرة الواقع، ولكنه يحرم الإنسان من أجمل عاطفة فى الوجود..
وهكذا نرى أن كل ترجيح لكفة على أخرى هو ترجيح مرجوح، ولن يعرف أحد أيهما كان سابقاً : البيضة أم الدجاجة؟.. والحل يبقى دائماً فى التجربة الفعلية فهى الاختبار الحقيقى لأى نظرية، وحيث إن التجربة فى هذه الحالة تتميز بعناصر كثيرة ذاتية تشبه بصمة الإنسان التى تختلف عن كل بصمة أخرى، فلا يمكن– والحال هكذا– أن نستنبط نظرية جامعة مانعة للحب، ولكن يمكن القول إنه موجود بخصائصه وإن اختلفت درجاته وتطبيقاته، إنه الشعور الذى يدفع الإنسان الفرد ( ذكراً أو أنثى ) إلى الانتماء والالتصاق بمعنى يتجسد فى حقيقة مادية، إلى الرغبة الدائمة فى استكمال دائرة ناقصة كى تضئ النفس، وهو بهذا التعريف لا يقتصر على علاقة الذكر بالأنثى، بل هو شعور يجذب الإنسان إلى وطنه وعشيرته، بل وأحياناً بعض الرموز المجردة مثل العلم والنشيد الوطنى والتاريخ..
*عضو اتحاد الكتاب المصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة