معصوم مرزوق

فى السويس.. كانت الإرادة هى النصر

السبت، 09 أكتوبر 2010 07:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى تاريخ الأمم – مثلما فى تاريخ الأفراد – لحظات سعيدة ولحظات تعيسة، والفارق بين الحالتين هو أن تاريخ الفرد محصور بذاكرته الفانية، ولحظته الذاتية ترتبط به ارتباطاً كبيراً أو بدائرة محدودة على أقصى احتمال، بينما تاريخ الأمم هو لحظة ممتدة تحملها ذاكرة خالدة يصعب محوها، وهى تنتشر بمساحة الشعب كله، ليس فقط فى جيل واحد أو أجيال، وإنما فى كل الأجيال.

فى ذاكرتى الشخصية لحظة كتبت عنها كثيراً.. على مشارف السويس.. فجر 24 أكتوبر 1973.. طائرات العدو تدور فوق الرؤوس بشراسة وقسوة، تقصف أى شىء يتحرك.. الدبابات الموشومة بالنجمة السداسية تزحف هادرة وهى ترمى بالجحيم فى كل اتجاه.. ضابط مصرى شاب فى العشرين، يحمل بندقيته الآلية ومعه حفنة من جنوده رجال الصاعقة.. وحده وقد فقد الاتصال بقيادته، ودون أن يعلم حجم ما يدور فى الجبهة، يتخذ قراراً بالصمود والمقاومة.. يصرخ فى جنوده: نموت ولا يمروا.. الله أكبر.. يردد خلفه الرجال المخلصون: نموت ولا يمروا.. الله أكبر.

تلك لحظة من لحظات شخصية عديدة، بكل ما تحمله من مجد وفخر ودماء وتضحية، هى لحظتى مهما حاولت بالكتابة أن أتيح لها بعض العمر الممتد، فهى معى حتى أموت، ومن المؤكد أنها سوف تدفن معى، إلا أن ذلك لن يكون نتيجة لحظة انتصار السويس، حين انكسرت دبابات العدو على مداخل تلك المدينة الباسلة، لأنها تعكس إرادة جمعية لأمة بحالها اتخذت قرارها بالصمود والنصر، وستبقى تلك اللحظة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فخراً لأبناء مصر جيلاً بعد جيل.

وفى عام 1956، كانت هناك معركة أخرى أطلقوا عليها فى الأدبيات الدولية اسم "معركة السويس".. وكان ينبغى أن يطلق عليها اسم: "معركة مصر".. فهى بكل المقاييس جماع إرادة حاسمة لشعب مصر آنذاك، حين قرر الصمود والمقاومة، ورغم ما قيل بعد ذلك عن نتائج المعارك العسكرية، فإن الحقيقة التى سجلها التاريخ هى أن شعب مصر قد انتصر فى هذه المعركة، وسطر فى سجل المجد أروع السطور.

لقد ألقى جمال عبد الناصر خطبة من على منبر الأزهر.. كان آنذاك فى منتصف الثلاثينات من عمره، شاب يتفجر بالحماس وتعكس ملامحه كل صلابة أهل جنوب مصر، ولم يتذكر أحد من خطبته سوى كلمة واحدة: "هانحارب".. ورددها الملايين بعد ذلك.

لقد كان عبد الناصر هو القائد ، إلا أن اللحظة كانت لشعب مصر كله، لحظة ستظل نبراساً لكل الأجيال التالية، فلولا الشعب المعلم ما كان نصر السويس، وربما بدا للبعض، ومازال يبدو للبعض – للأسف – أن قرار عبد الناصر كان مغامرة أو مقامرة، إلا أن القراءة الصحيحة المنزهة لتلك الفترة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا القرار لم يكن فقط محسوباً، وإنما وصل إلى درجة من الدقة فى الحساب لم ترق إليها سوى قرارات قليلة.

لقد استند عبد الناصر إلى إرادة الشعب المصرى العظيم، وكان يدرك أن دروس التاريخ قد أثبتت أن أكرم معادن هذا الشعب تتجلى أكثر ما تتجلى فى أوقات المحن والتحديات، هذا الشعب الصبور الحمول الذى قد يجوع ويشقى لكنه لا يرضى أبداً بالذل والهوان.

إلا أن الحساب قد أشتمل أيضاً على عناصر مادية، وقد سبق أن نشرت على صفحات مجلة الدبلوماسى قراءة فى مذكرات عميد الدبلوماسية المصرية والعربية الدكتور محمود فوزى، حول الإدارة الدبلوماسية والإعلامية الحاذقة لهذه الأزمة منذ قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس ، وكذلك كيفية الإستفادة بالإمكانيات العسكرية المحدودة لمصر فى مواجهة الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية، وما دار من فرق المقاومة الشعبية الباسلة فى شوارع بورسعيد.. لقد كان كان شعب مصر صاحب القرار الذى نطق به عبد الناصر.

أكثر من نصف قرن مضى على تلك اللحظة الباهرة فى تاريخ مصر.. لقد غاب أكثر من لم يكن كل من شارك بفاعلية فى أحداث تلك اللحظة ، إلا أن إشعاعاتها لا تزال – رغم كل الغيوم – تطل علينا قوية موحية ، تضيئ ظلمات الزمن وظلم الأحداث، تدفئ الأعضاء التى تجمدت فى ثلوج الحرص الذى أذل أعناق الرجال، فهى ذكرى شامخة لم تصبها أوهان الشيخوخة رغم أكثر من خمسين عاماً تبرز لنا مع كل يوم حقائقها المجيدة، فهاهى الوثائق الفرنسية – بعد الوثائق البريطانية والأمريكية – تزيح أستاراً أخرى عن جوهرة الإرادة المصرية التى لم تنكسر أمام هول التهديد ومصيبة النار والدم والدمار، وتثبت مرة أخرى أنه عندما تتوحد إرادة القرار المستقل مع إرادة الشعب فإن ما يبدو مستحيلاً يصير ممكناً، وما يبدو إنتحاراً يصير حياة متجددة وفخاراً، وما يبدو مغامرة غير محسوبة يصير هو الحساب الصحيح والواقعية التى تعنى التعامل مع الواقع بهدف تغييره وليس مجرد الإذعان له.

أكثر من نصف قرن ليس زمناً فى تاريخ الشعوب، فلماذا تبدو بعض قطاعات الأجيال الجديدة غافلة عن تلك اللحظة العبقرية من تاريخ مصر؟ رغم أن بها الدرس والعبرة، وما أحوج هذه الأجيال إلى الدرس والعبرة، خاصة فى هذا المفصل التاريخى الذى يعبره العالم حين تصبح الهوية الثقافية والوطنية مستهدفة لذاتها، وحين تتعرض الذاكرة التاريخية للأمم للتشويه المتعمد بهدف إخصاء القدرة على الفعل والحركة من خلال شطب كل سطور العزة والفخار أو إعادة كتابتها بما يحقق نفس الهدف، وللأسف سقط بعض النخبة فى هذا الفخ تحت مسميات الواقعية والعولمة والحوار مع الآخر ، فأى واقعية تلك التى لا ترى فى "نصر السويس" إلا هزيمة وعار، وأى عولمة هذه التى تمسخ أمة تمتد جذورها فى التاريخ إلى بداية التاريخ نفسه؟ وأى حوار هذا الذى يعنى أن نكون فى الطرف المتلقى دائماً؟ الحوار يفترض بداية أن يكون بين ندين لدى كل منهما موقفه وتراثه الذى يعتز به بحثاً عن أرضية إنسانية مشتركة لا تعنى إلغاء أو إقصاء.

أكثر من نصف قرن مضى على أحداث السويس الساخنة، وسبعة وثلاثين عاماً مضت على حرب العبور الخالدة، وهى جواهر فى صندوق ذاكرة الوطن لا ينبغى أن تخبو أو نسمح لكائن من كان أن يشوهها، يجب أن يجدها أطفالنا فى حليب الأم وفى حكايات الجدات وفى دفاترهم المدرسية، ولتنحنى كل الجباه أمام ذكرى أبطال هذه المواقف الصامدة التى أكدت صلابة معدن هذا الشعب العظيم.

أن هذا الشاب إبن العشرين عاماً الذى وقف فجر 24 أكتوبر 1973، بين ضباب المعركة الكثيف كى يتخذ قراره وحده بالصمود على مشارف السويس، هو ابن ذلك الشاب الذى أرتقى منبر الأزهر كى يعلن بقوة أن مصر "ستحارب"، وكلاهما استمرار لسيرة عطرة حملتها أجيال متتالية من شعب مصر، وكلاهما آباء وأجداد أطفال اليوم والغد الذين يواجهون تحديات الحاضر والمستقبل التى لا تقل قسوة بل قد تزيد فى ضراوتها لأنها تحديات للهوية والوجود.

لذلك فمن المهم ألا تفوت مناسبة كتلك دون أن نعيدها للضوء، ننظفها مما شاب بها ونقدمها ذخيرة لأبنائنا وبوصلة طريق.

طوبى لمن أمسكوا بمفاتيح قناة السويس وأعادوا الحق لأصحابه، للمرشدين المصريين الذين واصلوا ليلهم بنهارهم كى يفشلوا مخطط الأعداء الذين أرادوا أن يثبتوا فشل المصريين فى إدارة القناة بسحب المرشدين الأجانب.. طوبى لرجال القوات المسلحة الأشاوس الذين قاتلوا بجسارة على حدود الوطن بإمكانيات ضئيلة وضد قوى عاتية.

طوبى لشعب القناة وشعب مصر الذى امتلك إرادة تحدى الخوف وإرادة المقاومة وانتصر.. طوبى لكل الشرفاء القابضين على الجمر وعلى ثقتهم فى تاريخ الأمة وإرادة الشعب.. والعار كل العار لأولئك الذين يبيعون جواهرنا التاريخية بأبخس الأسعار.

ويا شهداء النضال عام 1956، دعونى على الأقل أضع وردة فى ذكراكم الخالدة، تحمل فى أوراقها العهد الذى لا يذبل بأننا سنواصل الدرب حتى منتهاه، وسنسلم عصا التتابع مرفوعة عليها رايتنا الخفاقة أبداً، فقد تنزف الجباه لكنها لن تنحنى إلا للخالق، ولا نامت أعين الجبناء.

عضو اتحاد الكتاب المصرى









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة