بينما أكتب لك هذه الكلمات من لندن، وتقرؤها أنت فى مصر.. ثمة شاب إنجليزى ترك بيته الريفى فى إحدى بلدات مقاطعة إسِكس البريطانية، يخطو الآن فى شوارع مدينة الإسكندرية خطواته الأولى، حاملاً معه حقيبة سفر فيها كل ما وقعت عليه يداه من كتب لتعليم اللغة العربية والتاريخ العربى والفرعونى وخرائط المواقع الأثرية فى مصر.. فبالأمس فقط شدّ هذا الشاب رحاله إلى بلادنا، عازماً على قضاء عشرة أشهر فى قلب ثقافة، حار كثيراً بين تاريخها المدوَّن باعتزاز وفخر فى مراجعه الجامعية، وصيتها الذائع فى الإعلام الغربى كثقافة ظلامية تدعو إلى الإرهاب وتحض على الكراهية.
"دانيال باكون" شاب فى العشرين، تعلم اللغة اللاتينية وأدب العصور الوسطى فى جامعة رويال هولواى.. لا يوجد فيه ما يميزه عن أى شاب مصرى سعى من القرية إلى المدينة طلباً للعلم.. منذ عرفته عام 2007 وهو يسألنى عن كل شىء إلا بلادى.. كتب فى مجلة الجامعة عن كل شىء إلا السياسة.. كان يقرأ قليلاً من الصحف، وكثيراً من الأدب، وكل همه أن يتقرب من إحدى زميلاته.. إنه شاب عادى لم ينخرط فى حزب ولم تجنده الكنيسة.. لكنه قطعاً كان يلاحظ الصراع الفكرى بين زملائه المسلمين وغير المسلمين، ويضعه فى سياق الاحتقان الثقافى السائد فى العالم.. لم يطلب منى إجابة أو تبريراً، ظل يراقب الوضع ببراءة تخفى حكمة وصبراً..
أنهى دانيال دراسته التى أحبها، وبدلاً من اصطحابى فى رحلة بإحدى الغابات كما كان يعدنى، قرر القيام بمغامرة أخرى فى العالم العربى، يبحث فيها عن حقيقة الإرهاب فى ثقافة هذه الأمة، واختار مصر التى يعلم أنها أم الدنيا.. لم يكترث بتحذيرات أقرانه المطلعين على الموقف السياسى المتوتر فى مصر، وأخبار المظاهرات التى تتوج بها وسائل الإعلام الغربى نشراتها وصحفها كل صباح.. لم يستأذن جهة رسمية ولم يلتمس من أحد المشورة.. سألنى فقط عن غرفة ليقيم فيها، ومعهد ليتعلم فيه اللغة العربية..
وعندما استقر وجدان دانيال على خوض هذه المغامرة دشن مدونة على الإنترنت بعنوان (المغامر المصرى)، ليشرع فى سرد ذكرياته عن هذه الرحلة حتى قبل أن تبدأ.. وفيها يقول: "إنها رحلة سوف تأخذنى إلى واحدة من أقدم بلدان العالم وأكثرها إثارة، أرض أسوان والأقصر وتوت عنخ آمون... إننى أتطلع لفهم مصر على حقيقتها.. هذا هو السبب الحقيقى لقيامى بتلك الرحلة"..
أتأمل هذا الفتى الإنجليزى المقدام.. أعرف أنه ادخر من مصروفه واقترض من والديه كى يموّل رحلته.. أمه كانت تصنع كوفيات من الصوف، ليبيعها لزملائه وينفق على نفسه، وكنت أول زبائنه وهكذا تعرفت عليه.. ليس ثرياً ولا من أسرة موسرة، وإنما على باب الله مثلى ومثلك.. أراد أن يصل إلى الحقيقة دون وسيط، مهما كان الثمن..
ساعدتُ دانيال باكون قدر ما أستطيع.. ولكن يا ترى كم من دانيال باكون فى الغرب يأمل فى أن يعرفنا عن قرب ولا يجد من يساعده؟ كم من أبناء الثقافات (الأخرى) ينظرون بعين الشك لادعاءات الإعلام الأمريكى والصهيونى؟ وكم منهم آمن بها لأنه لم يجد ما يخالفها؟
يأتى دانيال إلى مصر سعيداً، فكيف سيعود؟ كيف سيستقبله المصريون، وماذا سيتركون فى ذاكرته عن بلادهم؟ هل سيسيل لعاب سائقى التاكسيات عندما يشتمون منه رائحة العملة الصعبة؟ هل سيستغل الباعة جهله ويبتزونه؟ هل سيتذكر كل منا أن دانيال وأمثاله يأتون إلى مصر لأنهم يحبونها، فلا ينبغى أن يغادروها وهم يسبونها؟
دانيال سيشهد أهم عشرة أشهر فى تاريخ مصر الحديث، حيث التغيير هو مطلب الجميع.. فلعلنا نتغير أمام ضيفنا إلى الأفضل..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة