معصوم مرزوق

تسريبات "ويكيليكس"

السبت، 30 أكتوبر 2010 07:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قامت الدنيا ولم تقعد عندما نشر موقع "ويكيليكس" الإلكترونى مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية حول الحرب فى أفغانستان والعراق، وما تضمنته من وقائع تثبت مخالفة القوات الأمريكية لقواعد القانون الدولى، والقانون الدولى الإنسانى، بما يرقى إلى جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.

أبدى وزير الدفاع الأمريكى قلقه من الآثار العكسية الضارة لنشر هذه الوثائق على سلامة الجنود الأمريكيين، وعلى المتعاونين معهم من الأفغان والعراقيين، وهو ما أكده رئيس الأركان الأمريكى أيضاً، وهو ما يعنى- ضمناً على الأقل- التأكيد على سلامة الوثائق وما ورد فيها من معلومات، أى أنه إقرار بأن الجرائم التى تشير إليها قد ارتكبت بالفعل.

ومن المثير للاهتمام، أن موقف الإدارة الأمريكية قد تركز فى "الآثار الضارة التى يمكن أن تلحق بجنوده، وبالمتعاونين معهم"، دون إبداء الاهتمام الكافى بما احتوته تلك الوثائق من انتهاكات لحقوق الإنسان، وكأن هؤلاء الذين تم قتلهم وتعذيبهم من الأهالى المدنيين فى كل من العراق وأفغانستان لا قيمة لهم، وهو أمر غير مفهوم من مسئولى أكبر وأقوى دولة فى العالم، أو ربما هو مفهوم لأنها كذلك.

لقد تحولت أسماء ووجوه الضحايا إلى مجرد أرقام صماء بلا روح، مثل أسلافهم من الهنود الحمر أو الفيتناميين أو الكوريين الصفر، أرقام فى وثائق باردة تسبب مجرد إحراج للقوة الأعظم، وتثير قلقهم من أن ينقض أهل الضحايا على جنودهم ويأخذوا حقهم بأيديهم فى ظل عجز المجتمع الدولى عن حمايتهم.

فى حوار مع دبلوماسى غربى، وبعد مناقشات مطولة عن العلاقة بين السياسة والقانون، قال لى بحكمة غربية متميزة: "فى العلاقات السياسية الدولية، يأتى القانون الدولى فى مرتبة متأخرة جداً عن مصالح الدولة، فالمصلحة أولاً، والمصلحة أخيراً، وإذا أمكن تطعيم ذلك بالقانون، فلا بأس، وإن لم يمكن فلا ضرر".. بالطبع لم أكن ساذجاً كى أجادله فيما قاله، ولكننى اكتفيت بالتعليق بأنه إذا غاب القانون فى أية علاقة بين البشر، فإن ذلك يفتح الطريق لتطبيق قواعد القانون الطبيعى، أو هى قوانين الطبيعة، التى اصطلح على تسميتها قانون الغاب، أى أن تكون الغلبة للأقوى، فهز رأسه الغربية الفيلسوفة موافقاً، فتركته وأنا أفكر فى ضرورة أن تتوحش كل شعوب العالم المغلوبة على أمرها كى تدافع عن وجودها.

من السهل أن يتم رص مجموعة متتالية من القواعد الأخلاقية والقانونية المثالية فى السطور التالية، وهو ما سبق ممارسته على أى حال فى مقالات عديدة، ولكننى أظن أن القارئ قد مل من هذا النوع من العظات والنصائح التى لا يرى طائلاً من ورائها، أو لعله يتمثل بحكمة جحا الشهيرة "بأنه طالما كان الفحش بعيداً عن جدار البيت، فإنه لا يهم"، إلا أن مشكلة هذا التحليل أننا- للأسف- نسكن كرة أرضية واحدة، ويشملنا بيت واحد هو "الإنسانية".. وربما توجد حكمة أخرى تناسب المقام وهى "أننى أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، وأن "الساكت عن الحق، شيطان أخرس".

إن الشاب الذى نشر الوثائق رفض أن يكون شيطاناً أخرس، والجندى الأمريكى الذى زوده بها رفض ذلك أيضاً، ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

ومن المعروف أن شعوب الشرق الأوسط تتميز بإيمانها الشديد، وهو ما يثير التساؤل عن رد فعلها إزاء نشر تلك الوثائق؟ ربما يقول قائل، أو قيل بالفعل، إن هذه المعلومات ليست جديدة، وإن المذابح التى ارتكبت تمت على "عينك يا تاجر" وأمام عدسات التليفزيون، ولم يتحرك ضمير أحد، فلماذا تتحرك ذبابة بسبب نشر هذه الوثائق؟ وربما يقول آخر إن المطلوب هو تغيير "المنكر"، ولا بد من إثبات وقوع "المنكر" أولاً، ثم إنه إذا جاء العيب من أهل العيب، فإنه ليس عيباً.. وهذه حجج قوية من الصعب تفنيدها، وبالتالى فإن الأفضل هو "أضعف الإيمان"، عملاً بالحكمة العتيقة التى تقول إن "الباب اللى يجيلك منه الريح، سده واستريح"، إذا كان هذا صحيحا- ويبدو أنه صحيح– فلابد من إعادة النظر فى مسألة أن شعوب الشرق الأوسط تتميز بإيمانها الشديد، حيث يبدو أنها تشتهر بإيمانها الضعيف.

لقد أجهدت عينى فى قراءة بعض صفحات هذه الوثائق، وقرأت تقريباً أغلب التعليقات التى نشرت فى صحف الغرب، وكأننى أقرأ رواية قديمة للمرة العشرين، تحكى عن الجبروت والوحشية غير المبررة، وعن الظلم فى أبشع صوره، وعن استكانة الإنسان المغلوب على أمره أمام انتهاك كل حقوقه، حياته وماله وعرضه، امتهان كامل للكرامة الإنسانية، وجرائم ترتكب بلا عقاب.. نعم.. رواية مللنا من قراءتها، ولم تعد تدهشنا..

قفزت إلى ذهنى صورة المحترم "أوكامبو" مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية الذى لم يترك بقعة ضوء إعلامية دون أن يستأسد فيها على أهل السودان، وهو يتوعدهم باعتقال رئيسهم، سمعه العالم وهو يزأر بأنه لن يسمح بمرور جريمة دون عقاب، وأنه سيؤدب كل المتجبرين الظالمين.. فهل قرأ سيادته تلك الوثائق التى انهمرت كالمطر؟.. أم أنه:
أسدٌ علىَّ و...

ومن الطرافة أيضاً أن نتذكر أن بعض دهاقنة السياسة فى بريطانيا العظمى، عندما واجهوا منتقديهم بأنهم لم يجدوا أسلحة دمار شامل فى العراق، قالوا باعتداد امبراطورى أن التدخل فى العراق تبيحه شرعية التدخل الإنسانى.. وبالطبع تمتلئ وثائق ويكيليكس بتدخل إنسانى غير مسبوق، يعكس حضارة ومدنية القوات الأمريكية والبريطانية.. ومن ناحية أخرى كان غزو أفغانستان يحمل راية الحرب ضد الإرهاب، بينما الوثائق تحمل أنواعاً من الإرهاب الخام، الإرهاب المنظم الذى لا تديره حفنة من الشباب المتهور، وإنما أجهزة دول عظمى قادرة ومتمكنة.

لا أعرف كيف يمكن للضمير الإنسانى أن يحمل أوزار وأثقال كل هذه الوثائق التى تقطر دماً وقيحاً وصديداً؟، أى ضمير ميت هذا؟؟

إن المشكلة لا تتعلق بأن الضحايا عربا أو مسلمين، وإنما حقيقة أن البشرية تراقب هذه الفواجع فى القرن الواحد والعشرين دون أن تحرك ساكناً أو تطالب بمحاسبة الجناة، أن هذا الصمت التآمرى فيروس خطير يهدد مستقبل العالم، لأنه يعنى فساد النفوس ونشر الكراهية والأحقاد التى تتوهج فى نفوس المظلومين وأحفادهم، فاحذروا أن يصيبكم بعض ما رميتم به الآخرين، واعلموا أن القوة نسبية، وأن الأيام دول، وأن يوم الحساب قريب...
• عضو اتحاد الكتاب المصرى









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة