لم أتابع من قبل قناة البدر.. التى أغلقت منذ عدة أيام.. مررت عليها، كما مررت على عشرات القنوات التى تحمل أسماء لها طابع دينى.. وتصدر للمشاهد المصرى الدين فى قالب واحد.. واحد فقط، وما عداه بدعة.. قالب الغطرة والعقال والذقن الطويلة المشعثة والجبهة المعقودة بعلامة111.. قالب الفتاوى المفتوح بابها على مصراعيه.. تستدرج مشاهديها رويدا رويدا إلى إعطاء إجازة طويلة للعقل.. والتحول إلى مجرد عين تشخص باتجاه الشاشة.. ويد تمسك الريموت كنترول.. والأخرى على التليفون أو الإنترنت.. تجرى اتصالا أو ترسل إيميلا.. تطلب فيه العون والمدد بالفتوى فى شأن من شئون الحياة..
لم أتابع – حتى لا يتهمنى المتربصون بالكتابة فيما لا أعلم – بمعنى أننى لم أتحول إلى مواطن يحيا على الفتوى.. أو استلهام الحياة من سماسرة الدين.. أولئك الذين تعج بهم تلك الفضائيات المزعومة.. فتتخم أرصدتهم بالبنوك بآلاف الآلاف من الجنيهات شهريا.. وتفرغ عقولهم من كل علم ينفع البسطاء.. الذين تعلقت أرواحهم وعواطفهم بتلك الشاشات.. التى ادعت لنفسها الوكالة من الله للناس على الأرض.
لم أتابع تلك الدكاكين الدينية الفاشلة، لكنى رصدتها مندهشة.. دهشتى من أمر القائمين عليها.. المستهينين بعقول البسطاء من المتابعين.. فتجد كثيرا منها عبارة عن راديو وتليفزيون فى نفس الوقت.. وكليهما لا علاقة له بالآخر.. الراديو يبث آيات من القرآن الكريم.. والشاشة التليفزيونية تعرض إعلانات فى كل شىء، وأى شىء مما لا علاقة له بما يتلى.. كريمات لتفتيح الوجه.. مساحيق تجميل.. عناوين وتليفونات لمراكز تجميل وأطباء يجرون عمليات تجميلية.. منشطات جنسية.. أى والله.. منشطات جنسية.. ومطلوب منك كمتابع أن تمتلك عقلين لكل منهما جهازى إرسال واستقبال.. حتى تستطيع الاستماع إلى القرآن والوعى بمعناه.. والتركيز فيما تقرأه عيناك على الشاشة.. لاختيار ما يلائمك منه.. وتدوين أرقام التليفونات لاستخدامها لاحقا!!
وأخرى تفتيك فى ركوب مترو الأنفاق.. وطهى الطعام.. وقراءة الكتب جالسا أو مسترخيا.. والنوم على الجانب الأيمن أو الأيسر.. ودخول كليات القمة من عدمه.. وكل شىء قد يخطر ببالك فى أمر من أمور الحياة.. ولك مقام ما يناسبه من أحدايث – يعلم الله وحده مصادرها – تدعم وجهة النظر الفريدة لمن يفتيك فى الأمر.. من أولئك النجوم الجدد.. الذين يتحول ظهورهم القصير على شاشات تلك الفضائيات.. إلى مجرد باب يدلفون منه إلى أبواب أخرى.. باب شرائط الكاسيت والفيديو والإسطوانات المدمجة.. فعلى نفس الشاشات.. يتم الإعلان عن تلك الشرائط المختلفة الأنواع.. للشيخ فلان.. والداعية فلان.. تذهل عندما تستمع لها فتجدها مجرد جلسات خاصة.. فتح الله على نجم الشريط.. فانطلق يبث بعشوائية فى جمع من الناس غثاء.. تركب عليه – لاحقا من الشركة المنتجة – أصوات الاستحسان والتهليل والتكبير من جمهور الحضور، أو هكذا مفترض أن يكون.
أما الباب الذهبى.. الذى يضعه أولئك النجوم الجدد أمام أعينهم.. عندما يضعون أقدامهم على أعتاب تلك الدكاكين الفضائية.. ليخطون أى خطوة.. فهو باب الدعوات الخاصة.. لإمارة ما أو دولة ما.. على طائرة خاصة.. تستتبعها إقامة خاصة إما فى أحد الأجنحة الأميرية.. أو فى فندق 7 نجوم.. لتفسير حلم يؤرق إحدى أولئك المخلوقات الـ7 نجوم.. أو إخراج جان يسكن جسد ابن أخرى.. أو التدخل بأدعية وأذكار لمنع زوج ثالثة – من نفس الطبقة السابعة – من الزواج بأخرى!!.
شاهدت هذا بعينى فى دولة خليجية صغيرة منذ عامين.. وكنا مجموعة من الصحفيين المصريين.. نتابع فعاليات مؤتمر مهم على أرض تلك الدولة.. وكانت رفقة الإقامة فى الفندق طوال 5 أيام.. أحد هؤلاء النجوم الجدد.. يرتدى العباءة أحيانا.. والبدلة أحيانا أخرى.. والغطرة والعقال – لزوم التواصل فى هذا البلد – أحيانا كثيرة.. لم يكن يكترث بكل التعليقات الساخرة من المحيطين به.. التى كان يسمعها أحيانا.. ويستشعرها أحيانا أخرى.. فقد كان على أرض تلك الدولة لهدف سام.. الاستمتاع بكل "التسهيلات" الممنوحة له.. والعودة سالما لأرض الوطن بالعطية الكبرى حين انتهاء المهمة.. ولا تسألونى عن تلك.. فهى إما رقم من عدد كبير من الأصفار يسبق المبلغ الممنوح.. أو بضع قطع ثمينة من المجوهرات.. أو أشياء أخرى!!
تلك الرحلات المكوكية لأولئك المدعين الجدد.. أهم كثيرا من إنفاق الوقت.. وتسخير المعرفة.. لإيصال رسالة للبسطاء المتعلقة قلوبهم بتلك الشاشات.. الموصولة بكابل الأقمار المختلفة.. وعندما قرأت خبر غلق تلك المحطة سالفة الذكر – البدر– على موقع اليوم السابع.. عبرت سريعا لأصل لتعليقات القراء.. معتقدة مسبقا أننى سأغرق فى بحر عميق من استهجان قرار الغلق.. عطفا على اعتقاد –ربما كان خاطئا– بارتباط طاغى من الجمهور بتلك البوتيكات.. وخلاف توقعى.. فقد كان الشعور بالارتياح لهذا القرار هو الغالب.. والاندهاش من تأخره هو الأغلب.. وهو أمر يبعث على تفاؤل شديد بوعى قطاع مهم –حتى لو كان صغيرا– من المتلقى المصرى.. وهو رد فعل يضع من اتخذ القرار فى مأزق حقيقى، إذا لم يظل منتبها.. جاهزا بقرار أو قرارات مماثلة لكل خارج عن السياق.
الأمر لا يخص فقط تلك الفضائيات –مجازا– الدينية.. بل ينسحب على فضائيات أخرى.. لها رسالة أخرى مختلفة تماما.. علب الليل التى تبث غثاء يسمونه فن!!
وذاك حديث آخر.