إن كلمة إصرار فى المعجم الوسيط أصلها من أصر، وأصر على الأمر: أى ثبت عليه ولزمه، وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ فى الآثام، يقال أصر فلان على الذنب، أما كلمة الترصد فأصلها من رصد: ورصده أى قعد له فى الطريق يرصده ويراقبه، ويقال أرصد له بالخير أو بالشر، أما فهو لك بالمرصاد: أى يراقبك فلا يفوته من عملك شىء.
والحقيقة أن ظاهرة الإصرار والترصد تستحق الدراسة، فمن يطلع على أحوال المجتمعات العربية يرى أن هناك من يترصد لها ويراقبها، وأعنى بذلك أعداءنا دون تحديد، فهم يترصدون أى نجاح كى يفشلوه، ويترصدون أى بادرة أمل فى الإصلاح كى يجهضوها، ويترصدون بنا بكل الطرق المعروفة لنا وغير المعروفة كى يقتلوا كل ما يجمعنا من عناصر توحد بيننا قديماً وحاضراً ومستقبلاً، من تاريخ وجغرافيا ودين ولغة وحضارة، وهم يصرون إصرارًا آثماً على القضاء قضاءً مبرماً على كل هذه المقومات التى تخيفهم وتذعرهم إلى حد الموت من أن يتنبه العرب على ما يمتلكون من مقومات تربط بينهم، ويستيقظون من سباتهم العميق الذى طال حتى اطمأن أعداؤنا، إنا لن نستيقظ أبدًا، لكنهم ومع سبق الإصرار والترصد دأبوا منذ أن أدركوا مقومات وحدتنا على وأد أى أمل، ولا يزالون يدقون فى قلب أمتنا العربية والإسلامية أسافين التمزق والتشرذم، فقد بدأوا منذ أمد بعيد على قتل أهم عناصر وحدتنا، ووحدة لغتنا العربية الجميلة لغة القرآن الكريم، فابتدعوا بمساعدة أذنابهم باختراع ما يسمى بمدارس اللغات، كى تشب أجيالنا على كره اللغة العربية، وحب كل ما هو غربى وأجنبى، وهذا ما حصل للأسف ونحن نائمون فى العسل نتابع ما يجرى وكأنه يحدث فى كوكب آخر، ونحن فرحون منتشون أن فلذات أكبادنا أجادوا اللغات الأجنبية، واعوجت ألسنتهم ولم يعودوا قادرين على القراءة بلغة عربية سليمة، وانتشرت الدروس الخصوصية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن هيهات هيهات.. فقد فات الأوان، وضاعت لغتنا العربية بل قتلت شر قتلة على يد أبنائها الغارقين فى الملذات والأوهام، ويعتقدون أن التعليم الأجنبى هو غاية المنى، وهو المستقبل، ولم يدرك أحد منا أن المترصدين بنا يضحكون من جهلنا وغفلتنا، وهم يرون مخططهم الشرير قد نجح نجاحاً باهراً، فقد تدهورت أحوالنا وساءت أخلاقنا وتمزقت مجتمعاتنا كل ممزق، منذ أن تركنا لغتنا العربية واتبعنا طريق الشيطان الذى يترصدنا فى كل بلادنا العربية، وكانت هذه هى الجريمة الأولى والأهم التى يتوفر فى ارتكابها كلا العنصرين، الإصرار والترصد.
ولكن من الذى ارتكبها؟ أوليس مرتكب الجريمة يجب أن ينال عقابه؟ وبخاصة إن توافر شرطا الإصرار والترصد، فهل نعاقب أنفسنا؟ أم أن أولى الأمر هم من ارتكبوا هذه الجريمة فى حقنا وحق أبنائنا؟ أيا من كان المتسبب أو المشارك؛ فكلنا مذنبون، وبينما أحيا اليهود فى إسرائيل لغة ماتت منذ آلاف السنين، عملنا نحن على قتل لغتنا التى أحيتنا لمئات السنين.
وليس أدل على سقوط اللغة العربية بالضربة القاضية بأيدينا من تدنى لغة الإعلام مطبوعاً أو مسموعاً أو مرئياً، فاللغة المستخدمة فى برامج الحوار فى معظم الفضائيات العربية غالبا ما تكون عامية.
ووصل الأمر ببعض الكتاب والكاتبات الذين أفردت لهم مساحات فى صفحات الجرائد يكتبون مقالاتهم بالعامية، ويدعو بعض المثقفين كتاب العربية إلى التنازل والتغاضى عن قواعد اللغة، ويا للعجب! ليتحرروا من قيود اللغة.
ولقد بدأت شرارة هذه الحرب المستعرة منذ سقوط الخلافة العثمانية، فتشرذمت بقاياها واقتسم تركتها دول أوروبا المسماة بالاستعمارية، وهى فى حقيقتها يجب أن تسمى الدول الاستخرابية، إذ إنها منذ أن جاءت إلى بلادنا أواخر القرن التاسع عشر، وعبر بقائها لعشرات السنين، حاولت أن تخرب كل شىء بدءاً بتخريب اللغة العربية وانتهاءً بتغيير المفاهيم، فتغير مفهوم الانتماء ومفهوم الحرية ومفهوم الدين ومفهوم الأخلاق ومفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومفهوم العدو ومفهوم الحرب ومفهوم السلام، وإذا لم تسعَ مؤسسات الجامعة العربية بكل ما فيها ومن فيها إلى تصحيح المفاهيم، وإقالة اللغة العربية من عثرتها، فلا داعى لوجودها أصلاً، وقد أصبحت مجرد مؤسسة لتوظيف المحاسيب ليقبضوا مرتباتهم باليورو والدولار، ولا عزاء للقومية العربية والقوميين، والله من وراء القصد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة