عندما نحاول توصيف حال المثقف المصرى، فعلينا فى البداية الإشارة إلى أن المقصود بالمثقف هو منتج المواد الثقافية من الشعر، والقصة، والرواية، والكتابة المسرحية، والنقد، وأدب الطفل، والترجمة إلى الأغنية، والدراما، والتمثيل، والموسيقى، والسينما، والفنون التشكيلية، وفن المسرح وغيرها، كما أن الأمر يقتضى الاعتراف بأنه ليس بالإمكان الحديث عن المثقف المصرى بوصفه شخصاً واحداً أو جماعة واحدة، لأنه أشخاص وجماعات وفرق، ولكل منها ملامح ومشاعر وتواريخ ورؤى وأفكار وأحلام، بل وأمراض أيضا.
وقبل الحديث عن أحوال جماعات المثقفين يمكننا التقاط بعض الإيجابيات التى تمثل صورة مشرقة للثقافة المصرية، من ذلك كثرة لافتة فى عدد الموهوبين، خاصة من الشباب وتحسن كببر فى حركة النشر، وإقبال متزايد من القراء على مطالعة شتى ألوان المعرفة، وتألق فى الفنون التشكيلية، وزيادة نسبية فى عدد الجوائز ومحاولات لا بأس بها لترجمة المنتج الأدبى، وخدمات مؤسسية رسمية ومدنية، مثل التفرغ و تنظيم الندوات والمؤتمرات، وفى المقابل هناك تراجع واضح فى منابر النقد والتقييم والغربلة، لفرز الغث من السمين، حتى لا تبدو الحياة الثقافية كما هى الآن أقرب إلى الفوضى، وقد اختلط فيها الحابل بالنابل حتى غم المشهد على القارئ والكاتب معا، وهناك أيضا انهيار مفجع فى حال الأغنية التى كانت دائما أحد مصادر الإمتاع والمؤانسة بالنسبة لجمهور عريض فى مصر والعالم العربى، وما جرى فى مجال الأغنية جرى مثله فى المسرح والسينما والموسيقى، كما أن حال التليفزيون المصرى يمثل صدمة حقيقية للمثقف الذى حلم طويلا بتليفزيون جاد ومثقف يشارك فى الارتقاء بأذواق الجماهير، ويسهم فى إنضاج رؤاهم ومفاهيمهم، إلا أنه على العكس من ذلك يستدرج المشاهدين بأدواته ليهبط بهم، ويسطح نظراتهم للحياة والقيم، ويقطع علاقتهم بالفنون والآداب الرفيعة، ويصرف عيونهم تماما عن المستقبل، وأولى عتبات التقدم تتجلى فى التعامل مع مفردات المستقبل.
هذا عن المنتج، أما عن روح الأديب وفكره، فهو يعانى معاناة ثقيلة الوطأة بسبب ظروف العيش، لم يكن يعانى مثلها فى عقدى الخمسينيات والستينيات، حيث تطحنه الآن بلا رحمة المطالب الاجتماعية والأسعار المجنونة ذات الأنياب، وهو فى صدارة محدودى الدخل، كما أنه لابد يعانى كثيراً من اضطراب المنظومة السياسية، وهى تنعكس على فكره وحياته بشكل فادح، فهو، أراد أم لم يرد، متورط ولو بالفكر فى المجريات السياسية، ولا يستطيع أن يتجاهل الفكر الذى يحكم الدولة والذى يتجلى بشكل مثير للشك فى الرهان على رجال الأعمال الذين يملكون كل شىء، وبالتالى يحكمون ويتحكمون فى كل شىء، ولابد أنه أكثر من يشعر بالإحباط بسبب غياب الديمقراطية، وعدم وجود تداول للسلطة على أى مستوى، والأهم أنه مطعون بشدة بخنجر تهميشه المتعمد فى كل المجالات، إذ لا يعتد برأيه إذا عزمت أية جهة مناقشة أى قضية، بل هو دائما خارج كل الحسابات.
ولعل من هموم الكاتب الثقيلة التى قد لا يشعر بها البعض، رغبته فى التواصل مع العالم الأدبى والمعرفى فى كل أنحاء العالم الذى يقرأ ويتابعه باهتمام، لكنه لم يملك لا المال ولا الوسائط كى يصبح جزءاً من هذا الكون المعرفى الذى يمكن أن يفتح له الآفاق الأرحب، ويحفزه على أن يشارك ويتأمل ويدعم ويشتبك مع الحراك الموّار، لأن الكاتب والفنان يشعران دوما أنهما وإن كانا منتميين لوطن بعينه، فالعالم أجمع أيضاً وطن لهما.. وما يحدث فى الرقعة الواسعة يخصهما على نحو من الأنحاء.. والكاتب بالذات وبحكم ثقافته المتجددة يأسى للمحزونين فيه ويفرح للهانئين منه.
وقد يتحقق بعض التواصل للفنان المصرى والعربى، لكن الأديب الشاعر والروائى لا يتحقق له شىء من ذلك إلا فى حالات نادرة ومحفوفة بما يندى له الجبين.
ومن المؤكد أن هذا المنعطف التاريخى الملتبس يحاصر المثقف فى مناطق فكرية ونفسية تعسة، يشعر معها بأنه بين المطرقة والسندان، فهو مستنفر بالرغبة فى التعبير عن الخلل السياسى بنص جمالى، لكنه إما أن يوضح فيقع فى المباشرة، أو يتجاهل الواقع فيتهم بالتخلى عن القضية، وهكذا بدا المثقفون كأنهم مصنفون بذواتهم، إذ قرر البعض رفض الاعتداد بما يجرى، وليذهب الوطن إلى الجحيم انتصارا لما يتمنون من فن وجمال، وهناك من قرر العمل على إنقاذ المجتمع من حفرته مضحياً بما يتصوره المجد المزعوم، وهناك من يخشى المواجهة مع العصا الغليظة للسلطة إذا ارتدى ثوب المباشرة، وصنف رابع آثر أن يربى الأولاد ويوفر لهم القوت، ولا بأس أن يوفر المدارس الأجنبية والمصايف، ولو من موائد الدولة، وكثير منهم يعى جيداً أن أدنى محاولة لطرح رؤيته بصدق معناها حرمانه من كل المزايا والمنح.
إنها بالقطع حيرة وجودية بقدر ما هى حيرة ثقافية، وكثيرا ما تضرب المثقفين بعنف وتبسط أمامهم أرضاً زلقة تتسبب فى تبديد الوقت والفكر وتخلخل مشاريع الإبداع، ونادراً ما يدرك هذا المسئولون عن الثقافة.
على أن المثقف الجاد لديه أيضاً، وقبل هذا كله مشاغله المهنية التى تسبب له قلقاً فكرياً وفنياً، مثل الصراع الدائر بين الشاعر والقصيدة، وبين كاتب القصة القصيرة ومستقبلها ومحاولاته الدءوب للبحث عن صيغ تشكيلية جديدة مراوغة فى العادة، وكذلك كاتب الرواية، مما يدعونا للمغامرة بالقول بأن بعض الكتاب المصريين مؤرقون أكثر من اللازم بالشكل، ولديهم الأسباب الوجيهة، لذلك فى مقدمتها إدراكهم لأبعاد الحضور الجمالى وأهميته التاريخية والفنية.
ولا نستطيع بحال التنكر لتأثير غياب العدل على المثقف الذى يرى أن البعض هم أصحاب الحظوة الذين يتمتعون بكل شىء، ومثلهم أرباب الصوت العالى، أما الموهوبون الذين يبدعون فى صمت فما أسهل على المسئولين أن يهنئونهم بصمتهم ويشجعونهم على الرضا بالظل الظليل.. يحدث هذا كثيراً عند اختيار الفائزين بجوائز الدولة، وترشيح الوفود الممثلة للثقافة المصرية ومشاريع الترجمة، وحتى مجرد حضور افتتاح معرض الكتاب، أى أن الأسباب كثيرة للكمد والإحباط ثم نسأل عن السر فى مرض الكتاب وموتهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة