جميل شبابنا فى كل الأوقات، يجيد فى تحويل الفسيخ إلى شربات، والنكتة لديه حاضرة فى كل الظروف، حتى فى سرادقات العزاء، وأتذكر ذات مرة فى سرادق عزاء لشخصية مهمة من أثرياء القوم، سمعت شاب يهمس لآخر: "هو لمؤاخذة الراجل ده مات ليه؟" .. فأجابه الآخر: "أنا سألت ابنه الكبير فقالى يا أخى اسكت لحسن يرجع!!" .. كانا يكتمان الضحكة، ولكننى لم أستطع كتمانها وكان موقفاً محرجاً ..
يرى البعض فى هذه المقدرة العجيبة على "ابتكار الفرح" أنه خصيصة يختص بها الشعب المصرى دون غيره من شعوب العالم ويفسرها بأنها نتاج تجربة تاريخية طويلة عانى فيها هذا الشعب كل صنوف القهر والاستغلال، مما دفعه إلى خلق "عالم افتراضى" يعيش فيه سعيداً هانئاً، يقضم صبره بديلاً عن زاده، ويرتوى بالنكتة بديلاً عن سعادة حقيقية ...
أتذكر شاباً آخر فى مقتبل العمر، كان يجلس مع فتاته فى أحد الكازينوهات المتراصة على النيل، كان يحدثها عن إمكانياته المادية وتبدى امتعاضها واعتراضها من عرضه أن يتزوجا فى شقة صغيرة من حجرتين وعدته بها جدته .. قالت له إنها لا تقبل أن يؤدى الزواج أن تعيش فى مستوى أقل مما تعيش فيه مع أهلها، لأنها تستحق أن تتزوج ممن ينقلها إلى مستوى أفضل مما تعيش فيه حالياً .. سددت مئات السهام إلى عجزه وقلة حيلته حتى سقط منها تماماً وسدد نظره إلى النيل ساهماً .. وفجأة أشار إلى زورق صغير يضم أسرة صياد، يقوم فيه الرجل بشد الشباك، وخلفه زوجته تساعده، بينما ثلاثة أطفال يقومون بنزح المياه من الزورق وهم يتبادلون نثره، والجميع يضحكون فى سعادة طاغية .. قال لها: أتمنى أن نحصل على ربع سعادة أسرة هذا الصياد .. ولم تكن تحتمل أكثر من ذلك، فقد زفرت فى ضيق ولملمت ملابسها كى تغادره، واستمر هو يراقب أسرة الصياد وقد انتقلت إليه سعادتهم..
لقد مرت السنون، وتمكن هذا الشاب بكفاحه من تحقيق ثروة معقولة سمحت له أن يعيش حالياً فيما يشبه القصر .. وعندما تصادف أن قابل تلك الفتاة التى تخلت عنه لفقره، عرف أنها تزوجت رجلاً ثرياً يكبرها بأكثر من عشرين عاماً، ووفر لها كل شئ إلا السعادة .. السعادة التى كانت تشعرها معه وهما يقزقزان الترمس على شط النيل .. طلبت منه أن يستعيدا ما كان، أبدت استعدادها أن تمنحه كل شئ .. سألها ضاحكاً: "هل تذكرين أسرة الصياد؟؟ .. لقد أصبح لى أسرة مثلها، صعدت معى الدرجات درجة إثر درجة، ومنحتنى السعادة فى أصعب أيامى .. ولا يمكننى أن أتخلى عنها" .. جذبته من ذراعه قائلة بنبرات باكية: "والحب؟؟" .. فأجابها: "الحب مشاركة .. فى نفس الزورق حتى الوصول إلى بر الأمان" ...
ولكن هل تكفى النكتة أو الفلسفة بديلاً عن الاحتياجات الضرورية للإنسان؟ ..أم أنها مجرد هروب سلبى من مواجهة الواقع ومكافحة مشاكله للتغلب عليها؟ ..
أحياناً تبدو النكتة المصرية حلوة ومليحة تعكس روحاً تواقة للفرح، ترفض الحزن والغم والنكد، روحاً منفتحة على الحياة جاهزة للاستمتاع بأى قدر يتوفر منها، ويتعجب الأجانب الذين يزورون مصر من هذه الابتسامة الواسعة التى تفرد جناحيها على ضفتى النيل، والتعليق الأول الذى نسمعه منهم عن مصر لا يكون عن الأهرامات أو النيل أو متحف الآثار .. وإنما دائماً عن انبهارهم بالروح الطيبة الدافئة للإنسان المصرى ..
أحياناً أخرى تبدو نفس النكتة موقفاً سياسياً مغلفاً بالسخرية، وكأنها تقية شيعية باقية من أيام حكم الدولة الفاطمية، فهى تلخص فى ثوان ما يمكن أن يقوله زعيم حزب سياسى معارض فى خطاب طويل عريض مع بعض الأحاديث الفضائية، وكأنها حقنة فى النسيج السياسى، وخزة سريعة تختفى فى انفجارات الضحكات والتعليقات التى لا تقل فكاهة أو اختراقاً .. تشبه من يقوم بضرب أحدهم على قفاه ثم يسارع بالهروب اتقاءً لرد الفعل ..
وقد تشبع الأدب المصرى، وخاصة الشعر والزجل بهذا النوع اللاذع من التعليق السياسى ، فهذا ما فعله بيرم التونسى ، وصلاح جاهين ، وأحمد فؤاد نجم .. وفعله أيضاً بعض رسامى الكاريكاتير .. ويضحك المصريون حتى تغرورق عيونهم بالدموع ، ويمسحون أجفانهم بأكفهم وهو يقولون: "خير .. اللهم أجعله خير" ..
وقد تسمع هذه النكتة من معدم جائع أو مليونير رأسمالى من مثقف أو جاهل، إنها اشتراكية الفرح التى يتشارك فيها جميع المواطنين على قدر واحد من المساواة، والفارق هو أن الجائع سوف يبكى آخر النهار عندما يعود إلى أولاده الجائعين خالى الوفاض، بينما سيكون المليونير ساهراً ينثر أمواله على بعض الراقصات، وقد يحاول المثقف أن يفلسف النكتة كى يدخل عامداً إلى النكد والهم وتعقيد نفوس الناس التى لا تحتمل، بينما قد يضحك الجاهل على نفس النكتة فى اليوم التالى عندما يفهمها ..
يقول آخرون إن ذلك مجرد تنفيس حتى لا تنفجر القربة التى امتلأت، وأن ذلك الأسلوب الهروبى يؤدى إلى عدم مواجهة المشاكل بالجدية الكافية، ويذهبون إلى أن تلك مؤامرة تستهدف عقل الشعب المصرى، كى يظل يضحك بينما يضحك الجميع عليه.. يرون أن النكتة المصرية الشهيرة ليست سوى مخدر لا يختلف عن الحشيش، ولذلك ارتبطت غرز التحشيش بأحلى وأظرف النكات، فكلاهما تغييب للعقل والإرادة ، واستنزاف لطاقات الشباب ...
منذ سنوات كتبت قصة عن مدينة أمر ملكها تحريم الضحك، وأرسلتها إلى إحدى المجلات الأدبية، ولكنها – مثل كتابات أخرى كثيرة – لم تنشر، وعندما سألت صديقاً يعمل فى هذه المجلة عن سبب حظر النشر، قال لى معتذراً: لقد ضحك رئيس التحرير بعد قراءتها، ثم مزقها قائلاً أنها قصة جنسية!! .. وللأسف كان ما أرسلته هو المخطوط الأصلى بخط اليد .. وضاعت للأبد .. ولكن عاشت القصة ...
لذلك فقد فكرت فى الرأى السابق الذى ينتقد الحالة الفكاهية للمصريين، وتساءلت ماذا كان يحدث للإنسان المصرى إذا توقف عن التنكيت؟؟ .. ولعل ذلك كان السبب الذى دفعنى إلى كتابة القصة المؤودة، فقد كنت أريد أن أعرف كيف يكون شكل المجتمع إذا تخلى عن الفكاهة وصار جاداً عابساً ، يعمل بجد واجتهاد ولا يضيع وقته فى التفاهات والمخدرات العينية والمعنوية .. ربما كان الإنتاج سيزيد، ويقل عدد النسل ، وتنتشر الرفاهية .. ولكن .. ولكن كان المصرى سيفقد سمة هامة من سماته القومية، ويصبح شعباً ثقيل الظل ..!! ..
ولكن ألا يمكن الجمع بين الحسنين، أى نعمل ونضحك ، أو بلغة الشباب "نروشن" وننجز فى نفس الوقت؟ .. أكاد أرى إجابة كثير من الشباب .. ولذلك أضحك ، وأقول معهم " مساء الروشنة " ....
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة