محمد حمدى

عفاريت فى حقيبة صحفية

الخميس، 14 أكتوبر 2010 12:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حينما توقفت عن كتابة مقالات صحفية خارج صحيفتى الأهرام، بعد قرار الإدارة العام الماضى بعقابنا مالياً على كتابة مقالات الرأى، بدأت كتابة مذكراتى عن عشرين عاماً فى بلاط صاحبة الجلالة على الفيس البوك، على أمل أن أجمع هذه المقالات لتكون نواة لكتاب يؤرخ إلى حد ما للعشرين عاماً الماضية فى الصحافة المصرية.

وحين اتفقت مع الصديق خالد صلاح على العودة للكتابة اليومية فى اليوم السابع توقفت عن تدوين هذه المذكرات، لكن آخر ما كتبته يظل عزيزاً على قلبى، لأننى تلقيت بسببه اتصالاً هاتفياً من المرحوم الصحفى الكبير والقدير والمحترم محمود عوض، مبدياً إعجابه بما كتبت، وداعياً أن أستمر فى كتابة مثل هذه النوعية.

غاب محمود عوض بسبب الموت، وبالأمس كنت أفتقده كثيراً، أحن إليه وإلى حوار قصير معه لأخذ رأيه فى بعض ما أمر به، فعدت إلى قراءة هذا النص وقررت أن أنشره هنا فى اليوم السابع مع حكاية آخر مكالمة مع محمود عوض، ربما لأنه لم يعد فى الوسط الصحفى أساتذة كبار من نوعية محمود عوض يتصلون هاتفياً بمن كانوا تلاميذاً لهم ليراجعوهم فيما كتبوا، ويشدوا على أياديهم، ويدعمونهم فى أيامهم الصعبة.

أمضيت 18 شهراً فى بداية عمرى الصحفى فى جريدة الشعب دون أن أتقاضى مليماً واحداً، ورغم أننى كنت صحفياً نشيطاً، وحققت انفرادات صحفية عديدة، خاصة فى مجال الآثار، فإننى لم أتقاضَ أى ميلم من الجريدة حتى ذهبت إلى المحلة الكبرى لتغطية مظاهرات عمالية فى عام 1989 استمرت عدة أيام، ورأى المرحوم الأستاذ عادل حسين رئيس التحرير أنها تغطية مميزة عن سائر التعطيات الصحفية الأخرى، فوضع يده فى جيبه وأخرج عشرين جنيهاً كمكافأة تميز.

شعرت بالإهانة ورفضت أخذها وقلت لطلعت رميح مدير التحرير: أرفض أن أخذ أية أموال من جيب أحد، فأنا أعمل منذ عام ونصف دون أى مقابل، ويبدو أن طلعت نقل هذا الكلام إلى رئيس التحرير، فقرر منحى مكافأة ثابتة مقدارها ثمانين جنيهاً قبل أن يقرر تعيينى فى الصحيفة بعدها بأشهر قليلة.

لم يكن الحصول على مكافأة مالية من "الشعب" هو الهدف، فأملى كان التعيين والحصول على عضوية نقابة الصحفيين، أما نفقات الحياة فقد وفرتها بالعمل الإضافى فى مجلة المجالس الكويتية بترشيح من عادل حسين وطلعت رميح، ولأنها لم تكن مجلة سياسية، فقد انصب عملى بها على التحقيقات الخفيفة جداً من نوعية علاج المس وإخراج الجان من جسد الملبوسين.

ذهبت للعمل فى المجالس مع صديقى أحمد مصطفى الصحفى فى الشعب، وأحمد من الناس الذين تقابلهم مرة واحدة فى حياتك، ولا تستطيع التخلى عنه مهما حدث، عرفت أحمد مصطفى فى المدينة الجامعية لجامعة القاهرة فى الثمانينات، كان يدرس بكلية الطب البيطرى، ويعمل خلال الدراسة كمشرف تغذية فى المدينة الجامعية ثم كمترجم فى منظمة اليونسيف، وواصل العمل فى الشعب وهو طالب فى السنة الأخيرة بكلية الطب البيطرى وظل لسنوات يرفض أداء امتحان التخرج.

علمنى أحمد مصطفى الكثير من أمور الحياة حينما عملنا معاً فى الشعب وأقمنا فى شقة واحدة بشارع قصر العينى، أذهلنى أحمد بعلاقاته المتعددة والمتشعبة وحكاياته ويومياته، فتقريباً عاش أحمد فى كل أحياء القاهرة، ومناطقها الشعبية والتاريخية، من قلعة الكبش إلى الزاوية الحمراء، ويعرف تقريباً معظم سكان العاصمة ويزورهم، ووصل به الحال إلى أنه أصبح يعرف معظم سائقى التاكسيات فى القاهرة معرفة شخصية، إلى جانب أصحاب المطاعم والمقاهى والكافتيريات، لذلك لم نحمل هم عدم وجود نقود أبداً، فإذا ضربنا الجوع دخلنا أى مطعم وتناولنا ما نريد، لأن أحمد يعرف صاحب مطعم أو أحد العاملين به سيؤجل الدفع.

ذهبنا أنا وأحمد إلى المجالس وبدأنا فى كتابة تحقيقات عن المس، ذهبنا إلى كل الشيوخ المعالجين وبالقرآن والقساوسة المشهورين فى هذا المجال، وسجلنا بالكلمة والصورة كيف تنتشر الخرافة بين المصريين جميعاً وفى كافة الطبقات والمستويات، واستمعنا إلى أحاديث الجان من مختلف الجنسيات، لكن الجان اختصوا أحمد بميزات لم يعهدوا بها لى، وربما عرفوا أنه يعمل مترجماً فى اليونسيف ويجيد الإنجليزية بطلاقة، فتحدث معه جان من إنجلترا باللغة الإنجليزية!

ولا أنسى حين ذهب أحمد إلى المنصورة للتحقيق فى ظاهرة طفل عمره خمس سنوات يزعم أهالى طلخا أنه "مبروك"، ودخل أحمد مصطفى إلى المسجد الذى وضعوا به الطفل لينعم على الناس ببركاته، وحين انتهى من ملاحظة الموضوع خرج فلم يجد حذاءه، الذى سرق على باب المسجد ولم تفلح كرامات الطفل المبروك فى إعادة الحذاء، وأعطاه خادم المسجد "شبشب" يرتديه لحين شراء حذاء جديد.

الشيخ الصحفى الدكتور أحمد مصطفى كان مغرماً بعلم النفس، وبالغوص داخل الشخصية، وحين كنا نقيم فى الزيتون فى بداية التسعينات كانت ابنة صاحب المنزل الذى نعيش فيه تعانى من مشاكل نفسية، ويعتقد أهلها أنها "ملبوسة"، تكلم معها أحمد لبعض الوقت واستطاع حل مشاكلها النفسية، لكن المشكلة أن الخبر ذاع فى الزيتون، وأصبحنا نستيقظ من نومنا على أناس يطرقون الباب بحثاً عن الشيخ أحمد، الذى ذاعت شهرته فى حى الزيتون لدرجة دفعتنا إلى لملمة أغراضنا والبحث عن مسكن جديد.

بعد أربع سنوات سافر أحمد مصطفى للعمل فى هيئة الإذاعة البريطانية فى لندن، وانتقل منها رئيساً لتحرير النشرة الاقتصادية بتليفزيون دبى ثم رئيساً لتحرير النشرة الاقتصادية بقناة الجزيرة، ثم عاد رئيسا للقسم الاقتصادى بجريدة الحياة اللندنية قبل أن يعود للاستقرار فى هيئة الإذاعة البريطانية، ترك الطب البيطرى والترجمة وإخراج الجان وتخليص الناس من العفاريت، لكنه لم يتوقف أبداً عن كونه مواطن مصرى بسيط لى معه الكثير من الذكريات والحكايات اللتى سأنشرها فى كتاب أتمنى أن أصدره قريباً.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة