غريب هذا الذى يحدث فى بعض الدول النامية ومنها مصر بالنسبة للأحكام القضائية، إنه شىء مختلف عما يحدث فى باقى دول العالم.
فى الدول المتقدمة حينما يثور النزاع بين طرفين، يبدأ كل طرف فى الدفاع عن وجهة نظره. ويحاول إثبات صحة وسلامة موقفه، حتى إذا صدر الحكم القضائى وأعلن القضاء كلمته، فإن هذا الحكم ينهى الخصومة ويضع حدا لها، وهو بنص القانون حجة على المكانة، وينظر إليه فعلا وقانونا على أنه عنوان الحقيقة.
وبعد ذلك ينصرف الكل إلى شأنه ويتجه إلى عمله..
أشهر المنازعات فى الولايات المتحدة وأشهر المنازعات القضائية فى العالم، تلك التى وقعت أحداثها فى الولايات المتحدة فى انتخابات الرئاسة الأمريكية بين المرشحين بوش الابن وآل جور..
وموجزها أن البطاقة الانتخابية كان بها دائرة حمراء للمرشح بوش وأخرى زرقاء للمرشح آل جور، ويجب على الناخب ثقب الدائرة، ليحتسبها الكمبيوتر.. والحاصل فإنه عقب انتهاء فرز جميع البطاقات على مستوى الولايات تبين وجود عدد 264 بطاقة غرز الناخبون فيها الدائرة الحمراء ولم يصل النغز إلى حد إحداث ثقب فى الدائرة فلم يحتسبها الكمبيوتر.
تمسك آل جور بأن يكون عد وحساب البطاقات إلكترونيا، على النحو الذى تضمنه القانون، بينما تمسك بوش باحتساب هذه البطاقات لصالحه تأسيسا على أن إرادة الناخبين انصرفت إلى التصويت لصالحه.
تولت محاكم الولايات ثم المحكمة العليا الفيدرالية نظر المنازعة، وانتهت إلى ترجيح وجهة نظر بوش، وصدر الحكم النهائى لصالحه، وأصبح بوش رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.
والحاصل أنه فور صدور الحكم توقف الشعب الأمريكى عن الجدل وامتنع عن التعليق على الحكم، وانصرف الكل إلى عمله.
هذا ما حدث فى الولايات المتحدة، أما فى بعض الدول النامية ومنها مصر فإنه ما إن تصدر المحكمة حكمها إلا ويبدأ أصحاب الشأن وأنصارهم ومعارفهم بل أيضا الجمهور ممن لا خبرة لهم.. كل هؤلاء يبدأون فى التعليق على الحكم ومناقشته وبحث أدلة النفى وأدلة الإثبات مع تناول شهادة الشهود وسير التحقيقات، بل وبحث مدى قانونية الإجراءات السابقة والإجراءات اللاحقة، ويصل الأمر إلى مناقشة السوابق والأعراف القضائية.
ويتداخل الخيال مع الأوهام مع الجهل والخرافات والشائعات بل وأحيانا مع الغمز واللمز.
فإذا نحن أمام كيان مشوه عجيب ممسوخ مثير للقلق والظنون والريبة!
ويتولد لدى المواطن المصرى شىء من فقدان الثقة فى أعز ما يملكه وهو القضاء العادل.
وتبلغ المشكلة ذروتها حينما يتجه البعض إلى وسائل النشر المختلفة من فضائيات وصحف وإذاعة وتليفزيون وغيرها.
تنتشر الأوهام وتختلط الأمور، ويحدث المزيد من البلبلة فى العقول ويتسرب الكثير من اليأس فى النفوس.
وكان لابد لقانون العقوبات المصرى أن يتدخل ويتصدى لهذه المشكلة الخطيرة، لكنه صادف على الجانب الآخر مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها، وتتمثل فى أن بعض حكومات أنظمة الحكم الشمولى فى دول العالم الثالث تسعى للتدخل بحجة منع الفوضى السابقة، لكنها فى الواقع تسعى إلى مصادرة حق المواطن فى المعرفة، وحق الرأى العام فى متابعة الشأن العام، وحق الجماهير فى الإلمام بالأحكام القضائية ودراستها والاستفادة من مدلولها.. الأمر الذى يمثل نوعا من الرقابة الشعبية المطلوبة إذا كانت رشيدة مستنيرة.
وتدخل الدولة لعلاج المشاكل السابقة هو حق لكن يراد به - أحيانا - باطل، وأصبح واجبا على القانون وأيضا على القضاء أن يبحث عن معيار موضوعى متوازن، يفرق بين التعليق على الأحكام، وهو مرفوض، وبين دراستها والاستفادة منها، وهو مطلوب.
وعموما فيمكننا أن نشير إلى أربع جرائم جنائية نص عليها قانون العقوبات المصرى وتكون العقوبة فيها الحبس والغرامة وهى تقع بواسطة وسائل النشر:
«1» من نشر أمورا من شأنها التأثير فى القضاء الذين يناط بهم الفصل فى دعوى مطروحة أمام القضاء أو التأثير فى الشهود أو فى التحقيق أو التأثير فى الرأى العام لمصلحة طرف فى الدعوى أو التحقيق أو ضده.
«2» من أخلّ بمقام قاض أو هيبته أو سلطته.. ومن أهان المحاكم.
«3» من ينشر ما جرى فى الدعاوى المدنية أو الجنائية التى قررت المحاكم سماعها فى جلسة سرية. «4» من ينشر ما جرى فى المداولات السرية بالمحاكم، أو ينشر بغير أمانة ما جرى فى الجلسات العلنية.
خطورة على المجتمع والآن وبصرف النظر عن العقوبات الجنائية فإن السؤال الذى يلزم أن يجيب عليه أصحاب الضمائر اليقظة: ماذا يحدث فى المجتمع إذا فقد المواطن الثقة فى القضاء؟ وهل من المقصود أن يلجأ ويفكر فى وسائل أخرى للحصول على ما يرى أنه حق له؟
المستشار محمود العطار يكتب : القضاء والصحافة فى مصر وأمريكا
الخميس، 14 أكتوبر 2010 08:11 م
المستشار محمود العطار نائب رئيس مجلس الدولة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة