◄◄ وسائل الإعلام «غير المسؤولة» بثت فتنة قضائية بين القضاءين الإدارى والعادى بعد قرار المجلس الأعلى للقضاء
لم أجرؤ يوماً على مجرد التعليق على أى من القرارات الصادرة عن المجالس المهيمنة إدارياً على جهات القضاء فى مصر بأجنحته الثلاثة الدستورى والعادى ومجلس الدولة، لقناعتى الشخصية -وانغراساتى التربوية فى بيت قضائى- أنها نوع من المداولات الداخلية المتعلقة بقدسية القضاء واستقلاله، وما يتاخم معانيها من احتواءات العدالة المَرجوَّة، التى لا دخل يقيناً للإعلام أو غيره فى المساس بها من قريب أو بعيد! وما كان الاستثناء إلا مرة واحدة منذ عقدٍ أو يزيد مع ما أصدره المجلس الخاص بمجلس الدولة حينها من توصية بمنع أعضائه من النشر فى الصحف، وكنت فى مقتبل حياتى القضائية وسارعت وقتها إلى اتخاذ سبيل قانونى بإقامة دعوى قضائية لإلغاء القرار الإدارى المذكور، استناداً لمبادئ حرية التعبير التى أرساها الدستور المصرى وجادت بها جميع الوثائق والاتفاقات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان التى أقرتها مصر، إنقاذاً لبقايا الشاعر المُقيَّد داخلى وحقه فى نشر ما تضخه دماؤه المُنهَكة من أشعارٍ ونصوص وآراء، بيد أنى فوجئت بعدم وجود قرار ملزم وإنما هى توصيات داخلية تجعل الدعوى غير مقبولة شكلاً! ولولا أن وهب الرحمن مجلس الدولة - ولم يزل - شيوخاً أجلاء وقضاة أكفاء استطاعوا احتواء الموقف بحنو وأبوَّة، لكنت أكتب إليكم اليوم من نافذة أخرى!
وحتى فى المسألة الجارية ما كنت أتناولها حين عُرِض علىَّ أمر الانضمام كتابة لهذا الملف الصحفى الخاص - رغم موافقتى المسبقة والمعلنة على ما فاضت بها من نتائج - لولا جنوح أساتذتنا القضاة الأجلاء فى مجلس القضاء الأعلى للإعلام فى بيان وافٍ قويم - أتفق مع مضمونه كلية - بثته وكالات الأنباء والمحطات الفضائية والصحف، فأضحى الأمر مثار تعليق من جهات عامة فى الدولة وبعض القضاة ومنظمات المجتمع المدنى والمتخصصين وغير المتخصصين ورجل الشارع العادى إلخ..، إلى الحد الذى انتقده بعض الحقوقيين داخل البلاد وخارجها، بل وشرعت بعض وسائل الإعلام من جهة أخرى فى فتنة قضائية بين القضاءين الإدارى والعادى، بمقولة أن محاكم مجلس الدولة سمحت بتصوير وقائع جلسة فى اليوم التالى لبيان مجلس القضاء الأعلى، دون الاعتبار باستقلال مجلس الدولة دستورياً عن القضاء العادى، وبدا الأمر مستفزاً من بعض الرصد الصحفى غير المسؤول أو المتخصص إلى مداخلات فضائية مثيرة للجدل!!
ولا أعرف حتى اللحظة، إن كان ما أصدره مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 4/10/2010 فى شأن عدم السماح بنقل أو بث أو تسجيل أو إذاعة وقائع المحاكمات بواسطة أية وسيلة من وسائل الإعلام أو قيامها بتصوير هذه الوقائع أو هيئات المحاكم أو الدفاع أو الشهود أو المتهمين أثناء إجراءات تلك المحاكمات، هو قرار قانونى له عناصره من اختصاص ومحل وسبب وشكل، معبراً عن إرادة مُصدره، ومحدثاً لأثر قانونى، ومحدداً نفاذ صيرورته، ويخضع من ثم للرقابة القضائية فى دولة الدستور والقانون، ويجوز الطعن عليه من ذوى الشأن أو المصلحة؟ وهل له قوة الإلزام القانونى لجموع القضاة من عدمه؟ وهل يولِّد مخالفة إدارية أو تأديبية لأى ممن يحيد عنه من القضاة الزملاء، أو جريمة ما لكل من يخالفه من السادة الإعلاميين؟ ولو كان يرسِّخ ذلك فما الأمر فى البث الإعلامى السابق على صدوره؟ وما موقف القضاة الذين سمحوا قبلاً بتصوير أو تسجيل وقائع الجلسات؟ أم أن الأمر كله ينحسر فى توصية محمودة؟ أم منشورات داخلية للمجلس المهيمن إدارياً على مرفق القضاء؟ أم أوامر إدارية؟ أم تعليمات تنظيمية؟
ولقد فتَّشتُ عن القرار السالف وصيغته خلال الأيام الخوالى بين جمع من أساتذتى وزملائى رؤساء المحاكم، فلم أهتد إلى صورة منه أو حتى رقمه أو إجابة فاصلة عنه، وانتقلت باحثاً إلى شبكة الإنترنت فلم تؤد كل الطرق إلا إلى البيان الإعلامى سالف الذكر، مشيراً إلى قرار فى هذا الشأن من المجلس القضاء الأعلى.
وفى ظنى - وليس كل الظن إثم - أن ما أصدره مجلس القضاء الأعلى ما هو إلا توصية قانونية ملزمة أدبياً وعُرفياً لجموع القضاة، لجأ إليها المجلس الموقر لمَّا بدا له - وبحق - من سماح بعض السادة القضاة بدخول الكاميرات الإعلامية قاعات المحاكم، ومن انحراف بعض التغطيَّات الإعلامية لقضايا ما ودقَّ ناقوس الخطر على هيبة القضاء ودعماً لاستقلاله وكفالة مقومات موضوعيته وحيدته وصونا لثقة الرأى العام فى القضاء والقضاة وللسير الطبيعى للمحاكمات وعدم التأثير فى مجرياتها بأية صورة. وذلك وفقاً لما أُدركه شخصياً من اختصاصات مجلس القضاء الأعلى الواردة بالمواد (51) ومن المادة (77 مكرراً 1) حتى المادة (77 مكرراً 5) من قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 وتعديلاته، والله أعلم..
والحاصل أن الأمر أيسر من ذلك بكثير، فهيئة المحكمة مباشِرة الدعوى هى الجهة المنوط بها أصلاً ضبط نظام جلسات المرافعة أو الحكم، إعمالاً لنص المادة (18) من قانون السلطة القضائية المشار إليه، ولا سُلطان على القضاة سوى القانون، وقد فعلها ويفعلها العديد والعديد من قضاة مصر أن يُصدروا قراراتهم أثناء نظر الدعاوى أو بمناسبتها بمنع تصوير أو تسجيل أو نقل أو بث وقائع جلسات المرافعات أو الأحكام، إعمالاً لقواعد العدالة وقرينة براءة المتهم، ناهيك عن القرارات التى تصدر مباشرة من النائب العام بحظر النشر فى وسائل الإعلام بالنسبة لبعض القضايا التى يغمر موضوعها خصوصية معينة، وجميع المراسلين الإعلاميين المتخصصين يتفهمون أن قرار الإباحة أو المنع هو رؤية قانونية مستقلة لهيئة المحكمة التى تنظر الدعوى لا تؤثر على عملهم الإعلامى الذى يتحور واقعياً لنمط آخر من أنماط التغطية، دون إخلال مطلقاً بما أنزله الدستور والقانون من مبدأ علانية المحاكمات وما تقتضيه حرية الصحافة والتعبير وحق المجتمع الوكيد فى المعرفة.
وأرجو ألا يُؤخذ كلامى الجارى محمولاً على معارضتى لما صدر، بل على العكس أتفق تماماً مع المبدأ الذى اتخذه مجلس القضاء الأعلى جوهراً ومضموناً، إنما يلح علىَّ دوماًً شيطانى المعرفى فى مشاغبات قانونية مشروعة تأبى أن تمر دون تأصيل أو تنظير قانونى بعيداً عن الانعطافات اللفظية والإعلامية المباحة.. وقد احترت مراراً فى التخلص منها لكنى فشلت!!
المستشار عمرو جمعة يكتب: قرار الإباحة أو المنع هو رؤية قانونية مستقلة لهيئة المحكمة
الخميس، 14 أكتوبر 2010 08:11 م
المستشار عمرو جمعة وكيل مجلس الدولة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة