تتقرر مصائر البشر داخل قاعات الجلسات، أموالهم، ومصائر أسرهم وأولادهم، وأحيانا حياتهم أو مماتهم. تصدر الأحكام باسم الشعب، وتحت رعايته، وعلانية المحاكمة هى ضمانة ضرورية للرقابة الشعبية التى نص عليها الدستور والقانون. المحاكمات العلنية هى حق للناس بكل فئاتهم، ولكن المعادلة تبدو دقيقة جدا إذا ما أسىء استعمال هذا الحق ليتحول إلى معوّق يجعل مهمة المحكمة الخطيرة فى تقرير مصائر البشر أكثر صعوبة، وللأسف فإن المشاهد الأخيرة التى رأيناها فى المحاكمات الكبيرة تهدر الكثير من ضمانات المحاكمة العادلة حتى كاد الأمر أن يتحول من «علنية المحاكمة» إلى «علانية على حساب المحاكمة».
لا أتصور كيف يمكن لقاض يريد الاستماع إلى شهود نفى وإثبات ومرافعات دفاع وتقارير فنية ومذكرات ودفاع ودفوع، كيف يمكنه أن يفعل كل ذلك تحت ضجيج الكاميرات وتزاحم وأزيز أجهزة البث وحصار مكبرات الصوت ووميض فلاشات الكاميرات دون نظام أو ضابط؟ وهل يمكن أن يقال إن هذا تتوافر به أجواء تضمن للمتهم محاكمة عادلة؟ وهل يمكن أن يقال إن سير مجريات العدالة بغير هذا التضاغط والتزاحم والضجيج هو أمر مخالف للدستور؟ بالطبع لا.
بل على العكس، فإن كل ما من شأنه إعاقة سير العدالة وتعطيلها هو عين ما يخالف الدستور، إن الجلسات المحاكمة السرية التى تجرى عادة فى قضايا الأحوال الشخصية تمثل استثناء على مبدأ العلانية لصالح الحفاظ على خصوصية المتقاضين فى حياتهم الشخصية، فهو خروج مبرر على مبدأ العلانية لصالح المتقاضى وحقه هو الحق الأولى بالرعاية دائما حتى لو بغلق الأبواب ومنع الناس من الدخول، والعلانية المطلوبة والتى لا تتعارض مع عمل المحكمة هى أن يسمح للجميع بحضور المحاكمات ومتابعتها ومنهم الصحفيون والإعلاميون وهو أمر مكفول ومسموح ولا خلاف عليه، ولكن من غير المنطقى، وبحجة العلانية، أن تتحول قاعة المحكمة مع ذلك إلى بلاتوه سينمائى يشبه نقل مباريات كرة القدم على الهواء.
العالم كله يعرف خصوصية المحاكمة وضوابط العلانية التى تخدم العدالة ولا تعطلها، ولم ينقل لنا أحد على الهواء مباشرة واقعة مصرع الدكتورة مروة الشربينى رحمها الله داخل قاعة المحكمة الألمانية، أو مجريات المحاكمة لقاتلها، أو وقائع التحقيق فى مصرع الفنانة سعاد حسنى من داخل قاعات المحاكم البريطانية على الهواء مباشرة. الحدود واضحة، والهدف شريف ويبرر تقنين المبدأ على نحو يحفظ للمتهم حقه الأصيل فى الدفاع عن نفسه على مرأى ومسمع من الجميع، وأن يكفل للقاضى أفضل الظروف لكى يتمكن من أداء عمله، ولا أظن أن تناول إجراءات المحاكمة بالنقد والفحص والتشكيك هو أمر فى صالح العدالة كذلك، ولا يصح أن تنطبق نظرية المؤامرة فى كل مرة ترى المحكمة فيها تأجيل نظر الدعوى أو حجزها للحكم أو الحكم فيها، وفيما عدا ذلك فالتعليق على الأحكام مكفول فقط بعد أن تصبح نهائية باتة، بل هو فى الحقيقة واجب وخصوصا على خبراء القانون وفقهائه، وتحفل كتب الفقه القانونى بالنقد والتقييم للجوانب الفنية للأحكام وتقدير اتجاهات محكمة النقض فيما ترسيه من مبادئ قانونية، وكلها أمور تصب آخر الأمر فى خدمة العدالة لا ضدها. العلانية هى ضمانة لحسن سير العدالة، ودراسة الأحكام النهائية والتعليق عليها كذلك بعد أن تنتهى إجراءات المحاكمة هى أيضا ضمانة، أما إطلاق هذه المعانى دون ضابط أو رابط وعلى نحو يعيق سير العدالة ويعطلها ويشكك فى كل مجرياتها، فهى كلها أمور تستوجب وقفة وتقنين ومراجعة لكى يتحقق الغرض الأصلى من هذه الضمانات، وإلا انقلب الأمر كله وتحولت المحاكمة العلنية العادلة إلى علانية بغير محاكمة.. وبغير عدالة.
المستشار أشرف البارودى يكتب: علانية المحاكمة ضمانة للرقابة الشعبية ولكن!
الخميس، 14 أكتوبر 2010 08:11 م