ما يقرب من عشرة أيام قضيتها فى لبنان، متجولاً بين مدنها وماشيًا فى شوارعها ومتأملاً مفاتنها، لكن باستطاعتى أن أقسم هذه المدة إلى نصفين متساويين، الأول سيسقط من الذاكرة فى القريب العاجل، والثانى سأظل أذكره ما حييت، والحد الفاصل ما بين هذين القسمين هو مقابلة فنان كبير بقيمة وقامة "ويع الصافى" فلم يكن اللقاء مرتبًا من قبل، ولم يكن يتعدى "الأمنية" وطوال فترة إقامتى بلبنان كنت أحلم فقط بأن أراه أو أسمع صوته، ولم أكن أتوقع أن تحدث المقابلة هكذا ببساطة وعفوية وتلقائية، قابلت وديع الصافى فزاد حبى للبنان وزات فرحتى بها وأضفت الزيارة على أيامى بعدها بهجة وسرورًا، واستيقظ شعورى فجأة فأدركت أن لبنان "منورة بأهلها".
فى الطريق إلى وديع الصافى كنت أستمع إلى أغانيه الحنونة بداخلى أطرب بـ"يا عينى ع الصبر" وأدندن "دار يا دار" وأأتنس بـ "لها ضحكة يا ويلى بلون السهر، لما الورد بيملا شفايفه قمر، ضحكة لها فى الودن ابتسامة القدر.. فوق خدود العطاشى فى يوم المطر"، أتأمل جسارة الكلمات ورعة التشبيهات وصفاء الصوت وعبقرية اللحن، زمن مضى على روحنا وهى غارقة فى أغانى الحب "السادى" الذى لا يعرف إلا الاستمتاع بالعذاب أو التشفى فى عذاب الآخرين ممن كانوا أحبابا، زمن مضى ولم يغن فيه أبناء جيلنا إلا "تعالالى يا غالى" و"مت فى دباديبك" أو خيانة وغدر، زمن مضى والأغانى نوعان "استايل" أو "دراما"، ولا الاستايل استايل ولا الدراما دراما، كنت أستقل "تاكسى" متهالكًا، سائقه لا يزيد سرعته عن الثلاثين كيلو متر فى الساعة، ولمَّا كنت متلهفًا على رؤية "الصافى" طلبت من السائق أن يسرع قليلاً، لكنه لم يأبه، وقبل الصعود إلى بيته الذى يقع بأعلى ربوة مرتفعة اعتذر السائق استكمال المشوار لأن سيارته لا تحتمل، كان السائق متجهمًا ومتأففًا فى يوم "شوب" أى شديد الحر، فشعرت به كما لو كان نغمة نشاز فى يوم جميل، وحمدت الله على اعتذاره وتركته غير مأسوف عليه.
"جون" هو اسم السائق الذى وقف لى على مشارف المنصورية ورحب بى لأنى مصرى، قال باللهجة المصرية "المكسرة" أنا بحب المصريين عشان عندهم كرامة، وبحب أصاحب المصريين، وده تليفونى إذا بدك نكون أصدقاء، كانت سيارة جون حديثة ومكيفة، ولم يتركنى إلا على باب الصافى، فتخيلت أن حى وديع الصافى لا يقبل بالمتأففين المتململين أصحاب الروح النافرة، ولا يسمح بالدخول إلى منطقة نفوذه إلى الطيبين البشوشين، فاعتبرتها "بشرة خير" وفألا حسنا.
ها هو وديع الصافى الذى يسكن فى أعالى الجبال، مصاحبًا النسائم الندية، والروائح العطرة، والقمم التى تسعد به، قال لى: طمنى ع أحوالكو، فلم أعرف ماذا أقول له، هل أقول له عن حالنا؟ وهل إذا قلت له "عن حالنا" بصدق سيطمئن؟ نظرت إلى عينيه المسالمة الآمنة، وقلت له: حالنا مثل حال أغلب الدول العربية، وأنت أدرى منى بها، فقال: لا تقل هذا فمصر أكبر من الزمن، ومضى يخبرنى عن مصر التى كنت أسمع عنها، مصر الجميلة، بلد الأوبرا التى مضى على إنشائها مائة وخمسين عامًا، علمت الناس الفن خلالها والمحبة والرقى والإحساس، مصر عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش، بلد الأزهر والبابا شنودة، مصر التى فى خاطره "تؤلمنى" إذا ما قارنتها بمصر التى أتيت منها، هل أقول له إننا محونا تاريخ الأوبرا المجيد التى بنيناها بعرق جبيننا وآلام فلاحينا، واحتفلنا بالمنحة اليابانية التى أنشأنا بها الأوبرا الجديدة، هل أقول له إن مصر الآن أصبحت بلد نجم الجيل الذى شغل الدنيا بفقاقيعه المنتقاة بعناية فلاح ينتقى دودة القطن؟ هل أقول له إننا أصبحنا نتناحر على أتفه الأسباب؟، هل أخبره عن معركة كامليا ووفاء قسطنطين؟ أم أختصر وأحكى له عن معركة العوا وبيشوى؟ أو مذبحة عمرو أديب وإبراهيم عيسى؟، أو مطحنة مدينتى وطلعت مصطفى؟ هل أقول له إن مصر أصبحت طاردة للموهوبين من أبنائها ومحبيها؟ وهل سيتحمل قلبه الرقيق سماع كل هذه الأهوال، ماذا أقول لك يا عم وديع؟ قل لى أنت إذن، ومضيت أسمع عن بلدى ما لم أسمعه، وما تمنيت أن أسمعه، وكأنى مسافر عبر الزمن، أرى "الجنة أرضنا" وهى تحول إلى حقيقة بينة فى قلب "الصافى".
الجنة من غير ناس ما تنداس، وكنت أقول لنفسى محفزًا إياها إذا لم أرَ "الصافى" فلم أحسب هذه الزيارة إلى لبنان، لكنى بعد أن قابلته أيقنت أننى لم أكن باحتياج إلى زيارة لبنان ولكنى كنت فى أمسِّ الحاجة لزيارة مصر، مصر التى فى خاطر وديع الصافى، أجمل ألف مرة من كل الأفلام التسجيلية والمنشورات الدعائية وجهاز تنشيط السياحة بملصقاته وإعلاناته، مصر جميلة فى عيون أبنائها، وهذا حق، لكن الأجمل أن ترى جمالها فى عيون محب أمين مثل وديع الصافى، فهل يدلنا هذا الرجل على الوصفة السحرية لنسترجع بها مصرنا؟
لك أن تحسد أبناءه على هذا الصفاء المطلق، ولك أن تندم على عدم رؤيته كل هذا العمر، ولك أن تخاف عليه وعلى أوطاننا التى يتواجد بها كل هذا الجمال ولا نعرف كيف نجمل حياتنا بلمساته الناعمة الرقيقة، ساعات مرت وكأنى فى صلاة روحية دافئة، خرجت بعدها لأشعر حقيقة بأنى لم أسافر ولم أغادر بلدى، فمصر التى ذبلت فى قلوب بعض أبنائها مازالت طازجة ندية عفية قادرة مطمئنة فى قلب وديع الصافى، الذى يشبه اسمه تمام، اعتبرته إكسيرا لاستعادة مصر الجميلة، واعتبرنى من ريحة الحبايب، تكلمنا كثيرًا فى حوار مطول نشرته "اليوم السابع" فى عددها الأسبوعى الصادر أمس، لكنى فى الحقيقة لم أكن لأنتبه للكلام، فقد كنت مفتونًا بما هو أجمل من كلامه الجميل، كنت مفتونًا بهذا الصفاء الإنسانى النادر الذى شربت منه روحى فشبعت وأمنت واطمأنت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة