◄◄ لم تنس الدولة أن البرادعى أحرجها وهزم مرشحها لوكالة الطاقة.. ولم ينس البرادعى أن المسئولين فضلوا عليه شخصا آخر ورفضوا دعمه حتى بعد أن خرج المرشح المصرى من السباق
من حق الدكتور محمد البرادعى أن يرشح نفسه لرئاسة مصر، ومن حقه أن ينتقد النظام كما شاء، ليس فقط لأن النظام يستحق، أو لأن عيوبه لا يمكن سترها، ولكن لأن الديمقراطية والأجواء الليبرالية التى تبحث عنها مصر، تمنحه ذلك الحق هو وغيره بشرط الجدية وامتلاك رؤية قادرة على أن تخرج بمصر من النفق المظلم الطويل الذى تمشى فيه منذ زمن.
الكلام السابق اتفاق لايمكن لأحد أن يخالفه، إلا إذا كان مهووسا أو غير متزن مثل بعض رجال الحكومة الذين هاجموا الرجل بشدة وقسوة لمجرد أنه أعلن شبه رغبة فى خوض انتخابات الرئاسة القادمة فى 2011، فرغبة البرادعى حق أصيل له، وتأييده ودعمه حق مكفول لكل مواطن وكل حزب، بغض النظر عن سذاجة الموقف الرسمى للدولة الذى اختار معاداة البرادعى والهجوم عليه، وكأنه يثبت للعالم كله إلى أى مدى وصلت ديكتاتوريته بإعلانه الخصومة مع كل من راودته أحلام أو رغبات غير مؤكدة فى منافسة الرئيس مبارك.
الأزمة الوحيدة فى مسألة الدكتور البرادعى تكمن فى جزءين.. الأول يتعلق بسؤال يقول: هل فعلا الدكتور البرادعى يمتلك رغبة حقيقية فى خوض السباق نحو كرسى الرئاسة، ويحلم بخدمة هذا الوطن وانتشاله من هوامش الحرية والعدل التى يعايرنا بها النظام الحالى إلى حيث صفحات التقدم والديمقراطية البيضاء؟.. أم أن المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية والحاصل على جائزة نوبل، تم توريطه فى المسألة كلها بسبب الضغوط الإعلامية والنداءات الحزبية التى داعبت مشاعره بنقل صورته إلى حيث الصفوف الأولى، بدلا من ظلمة حياة المعاش؟ وهو سؤال سيظل مشروعا طالما الدكتور محمد البرادعى لم يقف فى منتصف ميدان التحرير، ليعلن ترشيح نفسه بشكل رسمى فى الانتخابات القادمة سواء كان مستقلا أو على قائمة أحد الأحزاب.
أما الجزء الثانى من أزمة الدكتور البرادعى، فهو يتعلق بحالة الخصومة الواضحة بينه وبين النظام منذ بدأ اسمه يتردد كمرشح للرئاسة، صحيح أن النظام المصرى يعادى ويفجر فى خصومة كل من يقترب من الكيان الرئاسى، ولكن الأمر مع الدكتور البرادعى يختلف عما حدث مع الآخرين.. فلم يتعرض الدكتور عمرو موسى لهجوم بهذا الشكل، رغم أنه الاسم الأكثر ترددا منذ زمن على ألسنة الجماهير، حينما تأتى سيرة المنافس الحقيقى للرئيس مبارك، أيمن نور أيضا لم يتعرض لتلك الهجمة الشرسة إلا بعد أن تأكد بشكل رسمى خوضه للانتخابات الرئاسية، وبدأ يتعامل مع الدولة على أساس أنه الوصيف القادم لإزاحة جمال مبارك، أيضا حمدين صباحى ومحمود أباظة والدكتور زويل وغيرهم لم يتعرضوا لما تعرض له الدكتور محمد البرادعى، رغم أنه حتى الآن لم يعلن نفسه منافسا رسميا.
كما أن نبرة الدكتور البرادعى فى انتقاد النظام والتعرض له، كانت أعلى وأقسى مما توقع البعض، فالرجل لم يترك تصريحا له يمر من هنا أو هناك، إلا وغلفه بلهجة انتقاد حادة تشير إلى عيوب النظام وفساده وأخطائه، وهو فى ذلك لم يكذب أو يبالغ، كل هذا دفع البعض نحو الإشارة إلى أن حالة التراشق بين رجال النظام والدكتور البرادعى وعدم حسم الدكتور البرادعى لمسألة ترشحه، بها جزء كبير من محاولة انتقام يسعى الدكتور البرادعى لتفجيرها فى وجه النظام المصرى وإحراجه، مثلما أحرجه النظام عام 1997.
تلاعب الدكتور البرادعى بأعصاب النظام ورجال الدولة بالتصريحات العائمة والمائعة حول مسألة الانتخابات الرئاسية، وما تحمله هذه التصريحات من كلمات غير مريحة بين السطور غذت ذلك الإحساس عند قطاع كبير من المتابعين لمسيرة المدير السابق لوكالة الطاقة النووية، فمن الواضح ألا أحد منهما- الدكتور البرادعى أو النظام- قد نسى أو غفل عما حدث فى 1997 وقت انتخابات وكالة الطاقة الذرية، لم ينس البرادعى أن النظام المصرى فضل عليه الدكتور محمد شاكر، ولم ينس النظام المصرى أن الدكتور البرادعى تحدى رغبته وأكمل المسيرة وروج لنفسه باسم مصر ليضع الدولة فى موقف حرج، ثم يهزم إرادة دولة الرئيس مبارك بشكل ساحق ويصبح هو مدير وكالة الطاقة الذرية ويعود الدكتور الشاكر المرشح المصرى إلى القاهرة بخفى حنين، بالإضافة إلى أن تلك العودة القوية للدكتور البرادعى، وكل هذا النجاح الذى حققه طوال فترة وجوده فى الوكالة تطرح أسئلة أكثر إحراجا على الرئيس مبارك ورجاله، على رأسها.. هل الدولة لا تجيد اختيار رجالها فى منافسات المحافل الدولية؟ هذا بالطبع لا يعنى أن الدكتور محمد شاكر الذى رشحته الدولة كان أقل كفاءة من الدكتور البرادعى، ولكنه فقط لم يكن يمتلك نفس قوة البرادعى على المستوى الدولى.
فتش إذن عن اسم الدكتور شاكر لتعرف سر هذه الخصومة المشتعلة بين البرادعى والنظام الحاكم، ولتدرك لماذا يستمتع الدكتور البرادعى بملاعبة رجال الدولة بتصريحات الترشح للانتخابات الرئاسية، ربما لا يكون الدكتور محمد شاكر طرفا رئيسيا فى هذه المعادلة، ولكنه بكل تأكيد وبدون أن يدرى هو التفسير القريب من المنطق لبعض تحركات الدكتور البرادعى فى مسألة الانتخابات الرئاسية، والأمر هنا لا يعتمد على تخمينات أو تكهنات، لأن اعترافات واضحة من جانب الدكتور البرادعى فى حواره مع جزيل خورى الذى بثته قناة العربية عقب فوزه بنوبل، تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن الرجل لم ولن ينسى لنظام الرئيس مبارك أنه فضل عليه مرشحا آخر، وهى التصريحات التى خرجت مرة أخرى فى حواره الأخيرة مع جريدة الشروق، ولكنها خرجت على استحياء بين السطور، حينما أكد أن ترشيح الدولة المصرية لشخص آخر غيره سبب له دهشة غير عادية، بل خرج عن إطار الدبلوماسية وقال إنه تم اختيار الدكتور محمد شاكر بدلا منه، بسبب علاقات شخصية بينه وبين رجال فى الدولة، ثم قال الدكتور البرادعى فى نفس الحوار، الجملة التى يمكنك أن تؤكد بها أن جانبا كبيرا من تحركات الدكتور البرادعى فى مسألة الانتخابات الرئاسية وانتقاداته للنظام، يتعلق برغبة انتقامية، خاصة أنه قال بشكل واضح وصريح وبالعامية المصرية إن اختيار الدولة لشخص آخر غيره «حز فى نفسى كثيرا».
ليس هذا وكفى بل ساهم رفض الدولة القاطع لأن يصبح البرادعى مرشحها الرسمى فى الانتخابات، فى زيادة غضب الدكتور، خاصة أن الدولة المصرية ردت طلبا تقدم به بتأييده فى الانتخابات بعد فشل الدكتور محمد شاكر فى تجاوز الجولة الأولى، ولكن رفضت الدولة المصرية دعم الدكتور البرادعى لحجة ساذجة، تؤكد أن هذا النظام يعانى من خلل ما، حيث اعتبر المسئولون فى الدولة أن إعلان مصر دعمها الرسمى للبرادعى فى المرحلة الثانية، يعتبر اعترافا بفشلها فى الاختيار، وخضوعها لرغبة الغرب الذى فرض الدكتور البرادعى على الانتخابات، وهو سبب يكفى لأن يصنع داخل الدكتور البرادعى أو أى مصرى آخر تلالا من الغضب وليس مجرد دهشة أو «حززان فى النفس».
الدكتور البرادعى فى النهاية إنسان من حقه أن يغضب وألا يغفر، ونحن كمصريين نعرف جيدا وقع كلمة «حز» ومتى تقال، ونعلم أكثر أن تأثيرها النفسى يدوم ويدوم حتى تأتى اللحظة التى ينتصر فيها الإنسان لنفسه ويلغى هذا «الحززان» الذى أثر فيه وفى نفسيته.
هذا الاتجاه السابق للدكتور البرادعى، ظهر واضحا فى حواره مع جزيل خورى حينما تهرب من الرد على سؤالها: لماذا لم تقف مصر بجواره فى انتخابات وكالة الطاقة؟ وقال لها إن نجاحه وفوزه الساحق بـ33 صوتا من بين 34 يؤكد أن المسئولين فى مصر يقرأون الواقع بشكل خاطئ، بدليل أنهم تجاهلوا حالة التوافق الدولى على ترشيحى واختاروا شخصا آخر، وهو كلام فى مجمله صواب.
حالة الغضب التى تملكت البرادعى بسبب اختيار مصر لشخص آخر غيره، تم التأكيد عليها مرة أخرى ولكن من خلال الدكتور محمد شاكر أو الرجل الذى أصبح دون أن يتدخل سببا فى تلك الفجوة بين البرادعى والنظام، ففى مقال له تعليقا على حوار البرادعى مع جريدة الشروق قال الدكتور شاكر إن الدكتور البرادعى شعر بمرارة بسبب اختيار مصر لمرشح آخر، وأضاف فى نقطة خطيرة لا يجب أن تمر مرور الكرام، أن سفيرا هنديا سابقا فى الوكالة، أكد له أن الدكتور البرادعى انتهز الفترة الحرجة قبل ترشيح الدكتور شاكر رسميا من قبل مصر، وروج لنفسه على أساس أنه مرشح مصر الرسمى، وهو الأمر الذى أثار بلبلة فى أوساط الوكالة وأضعف فرص المرشح المصرى كثيرا.
الكلام السابق حينما تضيف إليه الاتهمات التى وجهها البرادعى لمحمد شاكر، حينما قال فى حواره للشروق: إن ترشيح مصر له لم يكن بسبب كفاءته، بل كان مكافأة من الرئيس مبارك للدكتور شاكر الذى كان يستعد للتقاعد، وهو كلام على قدر سخافته الإنسانية، وعيبة قوله من زميل على زميل، يعكس جانبا آخر من الدكتور البرادعى يغذى ما سبق أن قلناه إن تلاعب الدكتور بالمعارضة المصرية والنظام المصرى فى مسألة الانتخابات وعدم إبداء موقف واضح وصريح، يؤكد أن للرجل فى الأمر بعضا من المآرب الشخصية، نتمنى ألا يطول تأثيرها عليه حتى لا تفقد مصر رجلا فى كفاءته، وخبرة نحتاجها اليوم قبل الغد مهما كانت طبيعة منصبها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة