الإحساس بالفرح نعمة لا يمنحها الله إلا لمن يقدر قيمتها.. والقدرة على السعادة صفة لا يتمتع بها إلا كل عاقل متصالح مع ذاته ومجتمعه.. وطعم الحياة لا يدركه سوى عشاق الحياة.
والمصريون فى كل بقاع الأرض عشاق للحياة.. شعب مفتاحه شخصيته الإحساس بالسعادة.. يدركون جيدا كيف يفرحون.. جماعات وبلا ترتيب.. إدراك الفرح شعور عفوى وكأنما فى جينات المصريين.. ينتشر بسرعة فيبدو كما لو كان سابق التنظيم.. من شاهد ملايين المصريين فى شوارع مصر المحروسة بطولها وعرضها.. ليلة الخميس الماضى.. الليلة التى هزم فيها الفريق الوطنى المصرى فريق الجزائر فى أنجولا.. الإحساس الطاغى بالسعادة.. البادى فى العيون الممتلئة بالفرحة.. والأيادى الممدودة.. راقصة أو مهنئة أو مرحبة.. والأجساد المتلاصقة فى كل الطرق.. لتتحول إلى كتلة لحم واحدة.. خلطة مصرية خالصة.. أمة ذات هوية مميزة.. من شاهد المصريين – فى الشوارع أو عبر الفضائيات – لا يمكنه تصور أن تلك الاحتفالية شديدة النظام.. إنما هى وليدة للحظة يدرك المصريون جيدا كيف يشعرون بها.. لحظة السعادة.. وتلك هى اللحظة المفتاح فى الشخصية المصرية.
(1)
لذا فدهشة المصريين تكون فى محلها.. عندما يطالعون عبر نشرات الأخبار التى تبثها الفضائيات المختلفة.. وقوع قتلى وجرحى بالعشرات أثناء احتفال دولة ما بانتصار فريقها الكروى فى مباراة ما.. ذاك معنى غريب على استيعاب المصريين.. فالمقدر لقيمة الحياة يكون عصيا عليه تقبل فكرة إنهاء الحياة احتفالا!!.. عشاق الحياة لا يقدمون الأرواح قربانا للحظة احتفال أيا كان.. ولا يدركون معنى أن يكون نتاج الإحساس بالفرح إراقة الدماء؟!.. ولا أن يكون للاحتفالات ضحايا, قتلى ومصابين؟!.. دهشة عشاق الحياة هذه تترجم لأسئلة منطقية.. كيف يقتل المحتفلون فى تلك الدولة بعضهم بعضا؟!.. هل يخرجون سكاكينهم – التى صارت علامة شعبية مميزة – فيشقون لحم بعضهم البعض تعبيرا عن الابتهاج؟!.. أم هل ينطلقون بسياراتهم – التى داست العلم المصرى العزيز على قلب كل مصرى – فيدوسون بعضهم البعض تعبيرا عن الشعور بالفرحة؟!.. أم هل يتشابكون بالأيدى مع بعضهم البعض – وهو ما أوضحته كاميرات التليفزيون للاعبيهم فى المستطيل الأخضر فشاهده العالم كله – لينتهى اشتباكهم بسقوط قتلى ومصابين؟!
(2)
وللمصريين أقول.. دهشتكم مبررة فتلك كلها تفاصيل يصعب على الشخصية المصرية تقبلها.. الشخصية المسالمة.. القادرة على الابتهاج رغم صعوبات الحياة.. الناظرة تجاه المستقبل.. المتمسكة بالحلم والفرح والنابضة بالحياة.. عندما يفرح بنى وطنى يدقون الطبول.. وعلى إيقاعات دبيب الحياة فى الأجساد.. يرقصون فى الشوارع رقصة الحياة.. يضحكون فتملأ ضحكاتكم الحياة.. وتتردد أصداؤها خارج حدود وطنهم.. فلا يفهمها من يغلقون على أنفسهم أبواب بيوتهم.. خوفا من الإرهاب.. أو من دخول النور.. فقد اعتادوا الظلام.. يرون أغانى المصريين ورقصهم وإحساسهم بالحياة.. شيئا يستحقون السب لأجله.. فيتهمونهم بأنهم شعب من الراقصين.. وما للجهلة من وسيلة للإحساس بالإبداع.. فما يحدث خلف أبوابهم المغلقة.. ويعرفه العالم كله.. بينما ينكرونه هم.. دافنين رأسهم فى الرمال.. إلا عنوان لحالة الشيزوفرينيا التى صارت نوعا من الإدمان.. تماما كسبهم لفرنسا.. رغم اصطفافهم فى طوابير طويلة أمام سفارتها طلبا لتأشيرة الدخول.. والتنديد باستعمار انتهى منذ 50 عاما.. رغم إصرارهم شيوخا وشباب على التحدث بلغته.. وتلك حالة كراهية بينة للحياة!!
(3)
بعد انتهاء مباراة مصر والجزائر بأقل من دقيقة.. دق هاتفى المحمول نظرت إلى الرقم الظاهر أمامى.. كان من الجزائر.. من مدير تحرير صحيفة جزائرية حديثة – وبالمناسبة فمدير التحرير هو الموقع الأعلى فى الصحف الجزائرية عن رئيس التحرير – وهو روائى ومخرج مسرحى.. ويعتبره الجزائريون من صفوة نخبتهم.. لطالما حدثنى عن عشقه لمصر والمصريين.. وتقديره لدورها الإقليمى منذ عشرات السنين.. واعترافه لى فى جلسات كثيرة فى القاهرة والجزائر.. عن الوضع المتداخل فى الجزائر.. الذى تحكمه كثير من التفاصيل لا تبدو على السطح.. حدثنى عن العنف والدماء.. وعن العشرية السوداء.. سنوات الإرهاب.. ماذا فعلت بالجزائريين.. وكيف تركت ظلالها على شخصيتهم.. جاذبة إياهم للوراء لعشرات السنين.. و"كنت" شخصيا أكن له التقدير.. حتى كانت المباراة الأولى بين مصر والجزائر فى الجزائر للتأهل لكأس العالم.. أسقط فى يدى تحوله – بلا مبرر – مائة وثمانين درجة.. وهجومه الضارى ليس على المنتخب المصرى.. لكن على مصر.. عبر صحيفته الناشئة فى مانشيتاتها وعناوينها وموضوعاتها.. وبنفسه فى مقالاته الشخصية التى هاجمت النظام المصرى والمثقفين المصريين والشعب المصرى على السواء!!
وسط غوغاء الهجوم على مصر.. وهمجية السب فى رموزها وفنانيها ومثقفيها.. لم يختلف مدير التحرير هذا – وأتعمد عدم ذكر اسمه – عن السياق الذى جرى تنظيمه فى بلده تحت وهم النيل من مصر.. ذاك السياق الذى لم يشذ عنه مسئول رسمى أو شعبى أو إعلامى أو رياضى.. ووسط لوحة موزاييك المصالح شديدة التعقيد فى الجزائر.. كان واضحا أن الأمر لا علاقة له بكرة القدم بالمرة.. الأمر شديد الارتباط بما فى الداخل الجزائرى.. من يخلف من.. ومن يحكم من.. ومن يتحالف مع من.. ومن يغتنم فى النهاية من كل هذا.. من اعتقدوا أنهم يستخدمون الشعب كاستخدامهم لمباراة كرة قدم.. سوف يدفعون ثمنا باهظا لما دبروا طوال الأشهر الماضية.. من منهم داخل الجزائر.. ومن خارجها أيضا.. فى فرنسا.. أو شارع البرازيل فى الزمالك على نيل القاهرة!!
(4)
عندما سقطت عينى على الرقم الظاهر أمامى.. وكنت مازلت أحتفظ به حتى لا أجيب عندما يهاتفنى.. فلم أجب.. بعدها بدقائق والى الطالب الجزائرى الاتصال.. ولم أجب.. وتوالت المحاولة لأربعة مرات متتالية.. ولم أجب.. كان فى الأمر احتمالين لا ثالث لهما.. إما أنه يطلبنى ليبارك صعود منتخبى.. ولم أكن أريد تلك المباركة.. إذا أرادها فليفعلها على صفحات جريدته.. التى مازالت – بالمناسبة – تسب وطنى.. وإما أنه يطلب ليسبنى كعادة بنى وطنه.. وفى الحالتين لم تكن لدى الرغبة فى الرد.. فقد طويت من الذاكرة صفحة ما كان لى من علاقات إنسانية فى الجزائر.. بعدها انهالت على الاتصالات من أرقام – لا أعرفها – تحمل مفتاح الجزائر.. لم أجب.. فليتقاتلوا ابتهاجا أو حزنا.. فليحرقوا شركات مصرية.. فليسبوا عبر الإنترنت.. فليحرقوا وطنهم – وهو أمر ليس ببعيد فقد فعلوها سابقا – أما أنا فال نية لدى للاستجابة لمحاولات جذبى للخلف.. كان أمامى الكثير من الوقت للاحتفال على طريقة بنى وطنى.. من عشاق الحياة!!
كاتبة صحفية بالأهرام .*