ناصر فرغلى

فى مصر: الشيطان ليس فى التفاصيل فقط

الأحد، 03 يناير 2010 07:25 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كلما شاهدت أو استمعت أو قرأت فى الجدل الدائر حول إصلاح الحياة السياسية فى مصر، وحول قضية التوريث وتسمية مرشحين لانتخابات الرئاسة المقبلة، والبحث عن الحزب البديل فى معادلة السلطة، تذكرت هذا المثل الغربى: الشيطان يكمن فى التفاصيل. ولا أدرى إن كان مثلا إنجليزيا أم ألمانيا أم فرنسيا، فقد سمعته بهذه اللغات كلها، ولذا آمن لوصفه غربيا.

ويطلق الغربيون هذا المثل تحذيرا من الواجهات البراقة، والمقولات العامة المنطقية والمنضبطة، والشعارات الجذابة لقيم متفق عليها وقد يكون بينها الحرية والعدل والتقدم، ذلك أنه من الوارد، وأحيانا من المعتاد، أن تعمى هذه البانوراما البهيجة على نقائص ومثالب وشياطين تعيش فى التفاصيل، ولا تنكشف إلا بالاقتراب منها والغوص المجهرى فى تلافيفها وجزئياتها.

وفى أمريكا تجد من الشائع أن ينصحك الناس بقراءة (البنط الصغير)، وهى نصيحة وقائية أفرزتها الخبرة الاستهلاكية تحذر من كم الاستثناءات والشروط والقواعد والإجراءات التى تفوت عليك الانتفاع بمزايا السلعة أو الصفقة أو التعاقد، تلك المزايا التى يركز عليها (البنط الكبير) فى الإعلان الجذاب، فإذا وقعت فى الشرك وفاتك قراءة شروط البنط الصغير، وجدت أنك بعيد عن الاستفادة من أى ميزة.

فى الحالة السياسية والفكرية المصرية، أجد هذا الوضع معكوسا، أو على الأقل مغلوطا، وقد كان عام 2009 مثلا جيدا على هذا، وأكاد أقول نفس الشىء عن 2008، 2007، الخ، آملا وداعيا أن تنجو سنة 2010 من نفس المصير.

فحياتنا السياسية قائمة على الغوص فى التفاصيل حتى الثمالة، والصراع مع شياطين صغيرة هى أجدر بتسميتها بالعفاريت، لأنها حتى لا ترقى إلى مرتبة الشيطنة، ونحن ندخل فى معركة صغيرة لنخرج منها إلى معركة صغيرة أخرى، ونحن نحضر عفريتا صغيرا ثم حين لا نعرف كيف نصرفه، ننصرف عنه إلى عفريت صغير آخر، وهكذا دواليك.

خذ عندك:
معارك صغيرة تصنع أبطالا صغارا ومناضلين جوفا (محشوين قشا على حد تعبير إليوت)، وكثير من هذه المعارك يدور تحت قبة البرلمان حول الوزير السابق الذى باع لبنته قطعة أرض، أو النائب الذى تاجر بأملاك اليهود، أو النائب الذى فلت لسانه على زميله، أو زميله الذى استخدم الحذاء، إلخ ...

وخذ عندك:
هوس الإعلام بمعارك انتخابية صغيرة لا تهم إلا فئات محدودة جدا من الشعب المصرى، كمعارك انتخابات نقابة المحامين، ونقابة الصحفيين، ورئاسة الأندية الرياضية، وهى هيئات ومؤسسات تتراوح عضويتها ما بين بضعة آلاف شخص أو بضع عشرات من الآلاف على أقصى تقدير، أى أقل من واحد فى المائة من تعداد شعب مصر، الخ ...

وخذ عندك:
الانشغال بنقد الأداء الحزبى المعارض، والانشغال بمعارك القادة الصغار لهذه الأحزاب الصغيرة على كراسى الزعامة الموهومة، ثم الانشغال أيضا بنقد أداء الحزب الحاكم، ومحاكمة شلله وحرسه القديم والجديد والمستعمل الخ....

وخذ عندك، وخذ عندك، وخذ عندك...
أسماء وأسماء وأسماء: علاء وزهران وبكرى ومكرم وضياء ومرتضى وشوبير وإبراهيم سليمان، وأيمن وموسى وعز وحميدة وغالى وهانى وخليفة وعاشور وطلعت وعفت ومصيلحى والجندى وإمام وعاكف وأبو الفتوح وزاهر وعبد الغنى وصادق ودعبس وأنس والشيخ وشلبى وعبده والغندور وهشام وسوزان وفلان وعلان الخ..الخ..الخ...

وليس هناك من أفكار.
وما من شك أن كثيرا من هذه المعارك شرعى، خصوصا ما ارتبط منه بقضايا فساد، ولكنه كالحق الذى يراد من ورائه باطل، تماما كحدوتة تجار المخدرات الذين يقدمون طوعا ضبطية هدفها بالضبط هو استمرار التجارة المحرمة، ومع أن الحرب على الفساد هو شعار معلن منذ زمن، ومع توالى سقوط فاسد سمين بين حين وآخر، فإن الفساد نفسه حسب آخر كلام كبير قد وصل للركب!

الأزمة فى رأيى المتواضع أننا بتنا غرقى فى التفاصيل، ومسار التفكير المصرى أصبح يسير فى اتجاه واحد: لتحت، فكم مرة سمعنا هذا التعليق: "يعنى نحط عسكرى مع كل مواطن؟!". أترون ما أعنيه؟ أليست هذه هى أسفل نقطة فى أسفل الهرم؟ ذلك لأن العيب الحقيقى هو فى المناخ الذى يسمح للفساد بالوجود والعيش والنمو والاستشراء وليس فى مجرد عدد أجهزة الرقابة وكفاءتها. إن أزمة الضمير ما هى إلا انعكاس لضعف الإيمان بالحاضر وانعدام الأمل فى أى مستقبل.

والحل فى رأيى هو أن نعمل (زووم أوت) للحد الأقصى وبسرعة، بل فورا، فقد جرت العادة فى مصر على أن الإصلاح والتغيير والقرار يبدأ من فوق، ولا سبيل حاليا فى فترة شهور قليلة أن تتخذ من التدابير والإجراءات ما يغير هذه القاعدة، ولعل هذا هو السبب فى تسارع وتيرة الحديث عن التغيير والإصلاح مع قرب الاستحقاق الرئاسى والشعور العام بإمكانية فراغ منصب الرئيس لتقدمه فى السن (أمد الله فى عمره) وبرغبته، وإلا فما كان لهذا الحديث أن يكون.

وإننى لأتفق مع ما قرأته منسوبا للدكتور مصطفى الفقى من قوله إن الشعب غير مؤهل للممارسة السياسية، وإن الساحة تعانى من فراغ فكرى وقيادى، ولكنى ألومه على عادته فى قول نصف الحقيقة وإن كنت أتفهم بواعثها، فالسؤال هو كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ ومن المسئول؟ وفى أى عهد تم إفراغ القمة من العقول والرجالات، والقاعدة من مسئولية المشاركة؟

إننا الآن فى أشد الحاجة إلى نظرة بانورامية شاملة على الوضع المصرى برمته، لأن الشيطان فى مصر ليس فى التفاصيل فقط، بل هو أجلى وأوضح فى البناء العام.

فلن نختلف على هشاشة الأحزاب، ولن نختلف على قشرية الحياة السياسية، ولن نختلف على أننا نختلف وبشدة على الدستور، ولن نختلف على انعدام الوعى السياسى للقاعدة وكونها مصابة بلامبالاة حادة ويأس مزمن، ولن نختلف على أننا فى أشد حالات الافتقار إلى هوية ورؤية، فلماذا نختلف إذن على أن سبيل الإصلاح لن يتأتى بمسمار هنا وصامولة هناك؟ لماذا نختلف على أن الخرق اتسع على الراتق وأننا فى حاجة إلى ثوب جديد كلية؟

إن تجارب الإصلاح الجذرى فى التاريخ لم تحدث إلا فى أعقاب زلازل وعواصف: حرب مدمرة، ثورة دامية، كارثة طبيعية، وفى كل الأحوال فإن الثمن باهظ والتوقيت غير معلوم، فلماذا لا نأخذ أقدارنا بأيدينا ونقتنع قمة وقاعدة بضرورة إحداث التغيير قبل أن يأتى الطوفان؟ لماذا لا يأخذنا الرئيس مبارك أو نجله بالاتفاق أو التوافق مع رموز القوى الوطنية الراشدة فى مسار انتقالى سلمى حضارى نخرج منه من جديد فى شكل أمة ناهضة؟

إننى أتصور أن يكون العمل الوطنى فى السنوات السبع المقبلة (2010 + مدة رئاسية) فى مسارين متوازيين:

الأول: هو مسار أسميه بـ(الإدارة) أكثر منه حكما، وتكون فيه مهمة النظام الأساسية هى تحسين الخدمات التى يتلقاها المواطن، ووقف تدهور الحال المعيشى لهذا الشعب.

الثاني: هو الإعداد الذى يتم فى الظل للمرحلة الجديدة بمشاركة من الجميع، ومهام هذا المسار الأساسية هى:
1) برنامج تثقيف سياسى شامل يعيد قطاعات شعبية واسعة إلى دائرة الهم السياسى والقدرة على المشاركة الواعية فى صنع القرار، فالحاصل أن الملايين ممن يصلون إلى صناديق الاقتراع يمارسون الحق دون أن يكونوا قد قاموا بالواجب، وأنى لهم ذلك فى ظل تعليم قاصر، وإعلام موجه نحو العشوائية والاستهلاكية، ومحاصرة أمنية على الأفكار، وحرمان السياسة من الوجود فى الجامع والجامعة؟

2) دستور جديد يكون عقدا اجتماعيا بحق يجمع طوائف الشعب وطبقاته وتياراته على الحد الأدنى الذى يصنع منا أمة من جديد، ذات هوية واضحة وتطلعات مشتركة.

3) خطط إصلاحية جريئة وجذرية وجراحية لأوضاع الاقتصاد والتعليم والصحة والأمن، لقد نفد صبر أهل مصر من سياسات المسكنات والقص واللصق والترقيع. وأنا كمصرى أفضل إجراء جراحة قاسية تقودنى للشفاء بشرط علمى بنسبة المخاطر (شفافية) واطمئنانى لأهلية الطبيب الجراح (شرعية).

إن كل ما أرجوه هو أن نهجر فكرة الإصلاح من الداخل التى تتبناها أمانة السياسات ومن يجرى مجراها، لأن الإطار نفسه معيب، والنظام مختلف عليه، والرموز لا ترمز إلا لنفسها.

ومن هنا لا بد من توسيع قاعدة أهل الرأى والمشورة والحل والعقد، لأن آفة الرأى الهوى، وجل من يتحدث عن الإصلاح هو مستفيد شخصيا من الوضع القائم فكيف نتوقع منه الحماس للتغيير؟!

إما أن نفكر خارج الصندوق، أو نظل سجناء فيه إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة